حلم على قيد الأنتظار


*عبدالكريم الساعدي

( ثقافات )

لمّا أدركتْ أنّ الموسيقى لغةٌ ، تشكلت أناملها المرتعشة شفتين ، داعبت أوتارَ قيثارتها الغافية على غبارالأهمال ،انزلق من خمارِ لوعتها لحنٌ دافيء اختصر الكثيرمن لغة الصمتِ والأنتظار ، وخزتْ روحَها محطاتُ اليأس التي أقعدتها في زواياها المعتمة ، فانسابت الأنغام تلبس ثوب الذكريات، تفتش عن ألم السنين . كانت زهرة فواحة تحوم حولها أقزام النحل عشقاً برحيقها، تنتظرغصناً يحمل روحها ، لكنه لم يأتِ . مازالت أناملها تعانق الأوتار ، تضجّ بفوضى الحواس ،تغرق في دروب مسكونة بالترقب، فتشتهي رقصة طالما حلمت بها ،ارتدت ثوبها الأحمر، أطلقت جدائلها للريح ترفرف كجناحي فراشة ،اسقطت جسدها الغض جانباً وغاصت في ثنايا كفيه المتمردتين،تتناثر شوقاً وحمّى مغويةً برائحة أنفاسه التي أحرقت أنوثتها عند حافة السرير الذي إلتهمها عند منتصف ظلمة الفراغ. انشرحت بعد حزن عميق واللحن ينساب من نافذة خدر لذيذ يجمع الآهات في صوت منفرد ، يجري على ساحل همسها ينفجر بأطياف مختنقة بعطر جسدها. لحظة ترقب وسكون، احتمت من زخات نغم متناثرة تحت مظلة من السحاب . تصحو على ذاتِ الليلة التي مزقت تمتمات لحنها لمّا قَدِمَتْ تهمس بوجودها مع عدد من المتسابقين، فلم تلقَ غيرالسخرية والرفض،فعادت منهزمة خائبة ، لاتستطيع أن تكتب لحناً آخر.مرة أخرى يهزّها استرخاء أوتار قيثارتها همساً ، فتفزّ من قبوها الغارق في كبوة الأمس، يتقاطع في دمها لهاث محموم، فترسم أناملها شراعاً على ضفة حلمٍ.. تمرح بين يقظة اللحن وأحلام أناملها:
– ما أعذب الذوبان بين شفتي كأسٍ و لحن قيثاره !
تستلقي في لجّة الأسفار،منتشية بصوت لم تألفه من قبل، يلّوح لها بيدٍ تغازل وجهَ الشمس، تسرد له حكاية عمر متعثر بحلم يغفو بين ذراعي النسيان . ما زال اللحن يغسل مدامعها من طريق لا أثرَ له ، تتعجل سكرى بترتيل إزدحام الألوان:
– لماذا ترتعش خطوط كفي قبل أنفاسي ؟، أخشى أن أتحول إلى شيء آخر. 
يخترق صوت حزين حاجز ليلتها، يصير ظلاً وارفاً، فتنتمي روحها اليه ، تظمأ أناملها لأعماق البحر ولونه، وحين يصبح البحر سمفونية، يَطرق بابَ جسدها ، مثقلاً بزبده، وفي نصف نافذة باهتة الألوان، ملتفة حول نصف قمر ينصتُ الى لحن الجسد،تتساقط القلوب على ربيع حلم يمتد بوبصلته تجاه العيون المضطربة بعطر السنابل . مازالت تقطر طغيان أنثى ملتهبة بنغم يزقزق خمراً على الشفاه، أوراق جوري متناثرة على قصيدة خجلى ترسم شوقاً مهاجراً دقّ باب القلب ورحل ، ندى يتنفس روح الهوس . تَعْتِقُ أنغاماً مبلّلة بالتأوه ، وقبل أن تغادر البحر عطشى تعرج الى سماء الروح ثملة ، مترنحة كريشة في مهبّ التجلي ، وما كانت تدري أنّ الموسيقى هوس وجنون ، تحملها الى حقول من الأزهار، إلى الغرق في رعاف الحلم ،فتنزف أحمر الشفاه فوق انتفاضة البوح المزدحمة بالصمت وابتهال الوجع ، ترتحل حيث يكون في عاصمة الهمس. يصفقها الصدى فتختبىء تحت معطف النغم منتشيةً بإستنطاق أعماقها شوقاً للوصل .كنتُ استرقُ السمعَ لنزيف لحنها منبهرٌ بسحره، من خلال نافذة أوجاعها، وعلى مدى قوس الليل اختنقتُ بأنفاسها الاهثة نحو جسد الفن . وقبيل الفجر لم أستطع مقاومة النعاس ، تدثرت بصدى أنغامها، وهي مازالت ترمم كبوتها بعزف الجراح نبلاً على أوتار حلم قيد الأنتظار .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *