*محمد زكريا توفيق
“علينا أن نستمع إلى الموسيقى الإيطالية وسط الإيطاليين. لكن الموسيقى الألمانية، يمكن أن نستمتع بها في أي مكان تحت الشمس.” شومان
“فيلهم ريتشارد فاجنر”، هو أصغر أخواته. ولد في ليبسيك عام 1813. عندما كانت تدور رحى الحرب الطاحنة بين جند نابليون والحلفاء الأوربيين، توفى والده بسبب حمى كانت منتشرة في المدينة. الوالد كان يعمل موظفا حكوميا.
والدته، كانت سيدة مدبرة. عاشت هي وأولادها الكثر بالكاد على معاش حكومي متواضع. ابنها الأكبر، لم يكن يتخطى سن الرابعة عشر. تزوجت من غيير، وهو ممثل وكاتب ورسام. أثبت أنه زوج صالح وأب حقيقي للأم وأطفالها.
بسبب تأثير زوج الأم، أصبح عدد من الأبناء الكبار ممثلين بالمسرح. هذا يعني أن ريتشارد فاجنر، بطل قصتنا هذه، كان يسمع منذ نعومة أظافره الكثير عن المسرح.
كان زوج الأم مهتما أيضا بالصغير ريتشارد، لكنه لم يكن يدري ماذا يفعل به. لأن ريتشارد، كان طفلا عصيا. لا يستذكر دروسه، ولا يحب الرسم، أو العزف على البيانو.
لكنه كان يحب التنزه في الغابة برفقه زوج الأم غيير. الذي كان يحبه حبا جما. وكان يفضل أن يدعى رتشارد غيير، إلى أن بلغ سن الحادي والعشرين.
كانت لـ ريتشارد هواية غريبة. كان يحب تأليف قصص العفاريت والأشباح. كانت تساعده أخته غير الشقيقة، سيسيليا. ليلة بعد أخرى، كل أنواع المخلوقات الشيطانية والعفاريت، كان يتخيلها تتكلم وتمثل.
أثناء مرض زوج الأم غيير الأخير، سمع ريتشارد وهو يحاول العزف على البيانو. ثم خاطب زوجته متسائلا: “هل يمكن أن يكون ريتشارد موهوبا؟”
بعد وفاة غيير، كانت الأم تحاول تشجيع ابنها قائلة: “إنه كان يحاول أن يجعل منك شيئا”. لكن ريتشارد كان حالة مستعصية. فلم يكن يجيد العزف على أية آلة موسيقية.
أُرسل ريتشارد فاجنر إلى مدرسة في مدينة درسدن، ومكث بها 5 سنوات. عندما انتقلت العائلة إلى ليبسيك، التحق بالجامعة هناك. كانت متعته هي دراسة: شكسبير، التاريخ، الأساطير القديمة، والحضارة الإغريقية.
في سن الثانية عشرة، قام بترجمة 12 جزءا من ملحمة “الأوديسة”، للشاعر الإغريقي هومير. ثم قام في نفس الوقت بتأليف مسرحية ملفتة للنظر.
أثناء أحداث المسرحية، يموت عشرات الشخصيات، إلا شخصية واحدة. ثم يعودون للظهور كأشباح شفافة في الفصل الأخير. هذه التراجيديا، حفزته على دراسة الموسيقى الهارمونية، التي أعجبته كثيرا.
أول اهتمام بالموسيقى، جاء عن طريق ويبير. كان يعتقد فاجنر أن ويبير هو أعظم موسيقى على وجه البسيطة، وأن أوبرا “دير فريشييتز” لـ ويبير، هي أعظم الأوبرات.
• “دير فريشييتز”، لـ ويبير
بعد ذلك، استمع فاجنر إلى سيمفونيات بيتهوفن. سيطرت موسيقى بيتهوفن على عقله وقلبه وأصبح مثله الأعلى. بيتهوفن جعل فاجنر يزهد في كل شيء، فيما عدا موسيقاه.
تفرغ فاجنر لدراسة نوت بيتهوفن الموسيقية. كان يدندن ويغني ألحانه ليل نهار. عندما بلغ سن الثامنة عشرة، لم يكن أحد في سنه، ملما بأعمال الأستاذ العظيم بيتهوفن، مثل ريتشارد فاجنر.
لم يكن فاجنر محبا للحياة الدراسية والتلمذة التقليدية. مع مرور الوقت، بدأ فكره يتحول إلى عالم الموسيقى. إليها كان المنتهى والدراسة الجادة، لمعرفة أصولها وأسرارها وخباياها.
الحفلات الموسيقية التي كانت تقام في مدينة ليبسيك، ساعدته كثيرا. أعطته الفرصة للتركيز على الأوركسترا، وعلى كيفية قيادته. أول عمل موسيقي له، كان مكتوبا لكي يعزف بأوركسترا من الحجم الكبير.
عندما قُدِّم العمل على المسرح أول مرة، قوبل بصيحات وقهقهات الحاضرين. لأن الموسيقى كانت مليئة بضربات الطبول والإيقاعات المرتفعة المستمرة.
لكي يعول فاجنر نفسه، كان يتجول بين المدن المختلفة. في بعض الأحيان، كان يرأس الجوقات الغنائية. في أحيان أخرى، كان يكتب الأوبرات التي لم تكتب لها الشهرة.
في هذه الأثناء، قابل تحت ضوء الشموع الخافتة، ممثلة مغمورة اسمها ويلهلمينا بلانر. ثم تسللا سويا في ضوء القمر لكي يعقدا قرانهما.
لم تكن ممثلة موهوبة وكانت زوجة عادية. كان فاجنر يدافع عنها قائلا: “إنها تحيا حياتها وتفعل ما في وسعها. تعبر عما يجول بخاطرها. فماذا نستطيع أن نفعله؟”.
وجد فاجنر وزوجته، وظيفتين في مسرح ريجا. هناك كتب أول أعماله الهامة رينزي. كان شغوفا بقراءة قصة الأديب لايتون بعنوان “رينزي”.
هي قصة تدور أحداثها في القرن الرابع عشر. بطل القصة “رينزي”، عالم حالم، حاول إيقاظ شعبه، لكي يقوم بتحرير روما من قبضة نبلائها الطواغيت العتاة.
• أوبرا “رينزي”، لـ فاجنر
كتب جزءا من لحنها في مدينة ريجا. عندما تيقن أن الأوبرا تستحق الإنتاج، أخذها إلى باريس لكي يعرضها هناك. لذلك، أبحر هو وزوجته وكلبه الضخم، متوجهين إلى لندن.
يبدو أن بحر الشمال كان قد فقد السيطرة على أعصابه. لأنهم واجهوا عاصفة عاتية، أوشكت على تدمير المركب. أثناء الرحلة، كان البحارة يرفهون عن الركاب ويقصون عليهم حكاية “الهولندي الطائر”. الذي كان يصر على الإبحار عن طريق رأس الرجاء الصالح، مهما كانت المخاطر والصعاب.
أخبر البحارة فاجنر، كيف نُسِجت لعنة مدمرة حول الهولندي الطائر، بسبب تجديفه وسبه لروح المحيط الشرسة الشريرة. لقد حُكِم عليه بأن يظل هائما على وجهه إلى الأبد بدون هادي أو معين، إلى أن يجد امرأة، تخلص لحبيبها حتى الممات.
لكي يجدها، سمح له بأن يرسو بسفينته على البر مرة كل سبع سنوات. بعد الفشل عدة مرات، قابل كابتن نرويجي فقير، كان مستعدا لبيع ابنته “سينتا”.
منحت سينتا كل حبها للهولندي الطائر، وأخلصت له على الدوام. فأبطل حبها وإخلاصها الخالد، اللعنة المسبوغة على الهولندي. غرقت السفينة المعلونة، ونجا الحبيبان إلى الأبد.
كان ظهر السفينة التي يركبها فاجنر وزوجته وكلبه، خير مكان يمكن أن يسمع فيه مثل هذه الحكايات. لكن الأسطورة والموسيقى المصاحبة لها، كانت لها تأثير طاغ على فاجنر.
بعد هذه الرحلة العاصفة، التي استمرت ثلاثة أسابيع، وصلوا إلى لندن. ثم أبحروا ثانية إلى بولونيا. هناك، قابلوا ميربير، مؤلف الأوبرا المشهور. فقام فاجنر بعرض نوتة أوبرا “رينزي” الموسيقية عليه.
أظهر ميربير اهتماما بالأوبرا، ثم أعطى فاجنر بعض التعليمات، التي يمكن أن تساعده في باريس. لكن لخيبة أمل فاجنر الكبيرة، عندما وصل إلى المدينة العظيمة، لم يجد من يقبل انتاج الأوبرا وعرضها. خلال الثلاث سنوات التي قضاها فاجنر هناك، لم يجد مساعدة تستحق الذكر من الباريسيين.
كان يسكن في كوخ صغير في أحد أحياء باريس. وكان يؤجر بيانو. خلال سبع أسابيع، أتم فاجنر تلحين أوبرا “الهولندي الطائر”. طعمها ببعض أغاني البحارة التي سمعها أثناء رحلته.
• أوبرا “الهولندي الطائر” كاملة مع ترجمة بالإنجليزية، لـ فاجنر
ألف فاجنر أعمالا موسيقية أخرى، منها “الجازيت”، وكان يفعل ما في وسعه لكي يقيم أوده. لكنه كان يحصل على القليل نظير جهوده هذه.
بعد أن تملكه اليأس وخيبة الرجاء، قرر مغادرة باريس. في هذه الأثناء، جاءته الأخبار بأن أوبرا “رينزي” لاقت القبول في مدينة درسدن. عاد مسرعا إلى بلاده، لكي يساعد في إخراجها للمسرح.
تم إخراج “رينزي” بطريقة عظيمة، وقوبلت بحماس شديد. أخيرا، بعد جهد شاق ومعاناة عظيمة، سمح لـ فاجنر أن يستمتع قليلا بأول ثمار للنجاح.
تم تعيين فاجنر قائد أوبرا في درسدن. هناك، قام بعرض أوبرا وراء أوبرا من تأليف موسيقيين آخرين. بعضها كان من تأليفه هو. منها أوبرا “الهولندي الطائر” التي لم تستقبل بحفاوة مثل اختها أوبرا “رينزي”. لأن “الهولندي الطائر”، بها أصالة لم يكن من الممكن استيعابها وتقديرها من أول وهلة.
أوبرا “تانهويزر”، كانت التالية في أعمال فاجنر على المسرح. القصة تتمركز حول مباراة في الأغاني، أقيمت في قلعة “وارتبورغ”، أيام زمان. الجائزة، هي يد “القديسة إليزابث”.
كان الفائز هو تانهويزر، بعد ذلك مباشرة اختفى ثم ذهب للحج. موسيقى “المارش” في الأوبرا، التي تصور موكب الحجاج، وصلاوات “القديسة إليزابث”، سحرت المستمعين منذ ذلك الحين وإلى وقتنا هذا.
• أوبرا “تانهويزر” لـ فاجنر
هذه الأوبرا، تنبأت بظهور مؤلف موسيقي عظيم. لكن “الهولندي الطائر”، لم تكن مفهومة. الذين اشتركوا في عرضها، كانوا يقولون إن ألحانها من الصعب غنائها.
فشل “الهولندي الطائر” كان ضربة قاصمة لـ فاجنر. عندما أكمل أوبرا “لوهنجرين”، الفارس المتخفي في صورة بجعة، الذي يقوم بإنقاذ “إليز” من الوصي الشرير، لم يكن لها مكانا للعرض على المسرح. اليوم، هي أشهر أوبرات فاجنر.
• أوبرا “لوهنجرين” لـ فاجنر.
أثناء وجود فاجنر في درسدن، جاء سبونتيني لكي يعرض أوبرا “لا فيستالي” من تأليفه. سرعان ما تعارفا وأصبحا صديقين حميمين. نصح سبونتيني فاجنر، بترك التأليف الموسيقي الأوبرالي. كانت تبدو نصيحة جيدة في ذلك الوقت، لكن لحسن حظ عشاق الموسيقى الكلاسيكية اليوم، لم يأخذ فاجنر بهذه النصيحة.
لم نسمع الكثير عن فاجنر في السنوات التي تلت تلك النصيحة (الهباب). لأنه كان ثائرا سياسيا، ومتمردا على الأوضاع الدينية. أثناء قلاقل عامي 1847 و1848، كانت خطبه النارية تدفع السلطات للقبض عليه. لذلك، كان عليه الهرب من ألمانيا.
ظل هاربا خارج ألمانيا عدة سنوات. معظم الوقت، كان متواجدا في سويسرا. هذه الفترة من حياته، كانت تسمى فترة الحرية.
كان يدرس ويكتب المقالات في موضوعات مختلفة. كان أيضا يؤلف الموسيقى، منها عمله العملاق “خاتم نيوبلونجز”، أو “خاتم اللورد”، أو “الخاتم”.
كان الألمان فخورين بهذا العمل الضخم، “خاتم نيوبلونجز”، كما كان الإغريق فخورين بالإلياذة والأوديسة للشاعر هومير. لأنها كانت مليئة بقصص الأبطال الألمان، منهم الفارس “سيغفريد” و”برونهيلدي”.
“خاتم نيوبلونجز”، تتكون من أربع أوبرات، هي: “ذهب الراين”، “فالكيري”، “سيغفريد”، “شفق الآلهة”.
• “ذهب الراين” لـ فاجنر
قصة الأوبرات بنيت حول ملكية خاتم سحري، مثل خاتم سليمان. الكل يطلبه، لكنه مصحوب بلعنة تحل على من يملكه. كنز الذهب، الذي صنع منه الخاتم، كان مملوكا لعذارى نهر الراين. ثم سرقه قزم شرير.
بعد أن تناولت ملكية الخاتم أيادٍ كثيرة، وقع في يد الفارس “سيغفريد” بعد أن قتل التنين. في أحد المغامرات، عبر سيغفريد حائط اللهب، لكي ينقذ برونهيلدي من السجن الصخري. أعطاها الخاتم، فقامت بإبطال لعنته، وأعادته لعذارى نهر الراين.
الأوبرات تحتوي على أساطير وحكايات متنوعة كثيرة. كل العواطف والانفعالات الإنسانية، تجدها معبّرة بالموسيقى. كما أن مشاهدها على المسرح، يزيد من سحرها وجلالها. لا شيء يعادل مشاهدة هذا العمل الرائع حيا على المسرح.
يصف فاجنر موسيقاه التي وضعها في هذا العمل الجبار، بأنها موسيقى المستقبل. استغرق تأليفها 20 سنة من عمر فاجنر بالتمام والكمال.
لم يكن يؤلف باستمرار. لأنه لم يكن هناك ما يشجع على التأليف. فلم تكن لديه بارقة أمل في عرض ملحمته العظيمة هذه على العالم الخارجي.
بينما كان فاجنر يؤلف رباعيته “خاتم نيوبلونجز”، بات شغوفا بأسطورة “تريستان وأيزولدة”. فقام، بناء على هذه الأسطورة، بتلحين أوبرا عظيمة بنفس الاسم.
• “تريستان وأيزولدة” لـ فاجنر
حب البطل للبطلة العذراء، ظهر في موسيقى الحب، التي تعتبر من أجمل ما عرض على مسارح الأوبرا في تاريخها.
• مشاهد حب مع موسيقى “ترستان وأيزولدة” لـ فاجنر
بينما كان “فاجنر” هاربا في سويسرا، نمت صداقته مع ليست. هو الذي ساعده على الهرب، وكان دائم الزيارة له. كانا يقومان بالرحلات عبر الجبال سويا.
بعد ذلك بعدة سنوات، أثناء مأدبة عشاء في ميونخ، أقيمت لتكريم فاجنر، قال ليست: “تكريم فاجنر هو كل ما أبغي. فأنا لا أطمع في شيء لي أو لأعمالي”.
كان فرانز ليست هو الصديق الوفي لـ فاجنر. كان يعزف موسيقاه، وعيناه مغرورقتان بالدموع. كان يعرف قيمة موسيقى فاجنر الفريدة الآتية من عالم آخر، بينما العالم الذي نعيش فيه، كان في شك وحيرة من أمره.
في عام 1850، عرض ليست أوبرا “لوهينغرين”، في ويمار. أصيب بالأسى، عندما لم يستقبلها الجمهور بالحماس الذي تستحقه. مضت سنوات عديدة قبل أن يشاهدها فاجنر نفسه على المسرح. وكان يقول: “تقريبا كل الألمان شاهدوها إلا أنا”.
لكن فاجنر، قوبل بكل الود في إنجلترا. في عام 1855، قاد الأوركسترا الفيلهارموني هناك. لكن مواطنيه وأهله وعشيرته الألمان، لم يعجبوا بموسيقاه إلا في وقت متأخر من حياته.
• أوبرا “لوهينغرين” لـ فاجنر
مع مرور الوقت، بدأت “لوهينغرين” تكسب معجبين. من بينهم، وأكثرهم حماسا، لودفيج الشاب ملك “بافاريا”. كان يتخفى في ملابس الفارس البجعة، ويركب قاربا في شكل بجعة لعدة ساعات.
عندما علم بإحباط فاجنر، قرر أن يكون راعيه، ثم استدعى فاجنر لبلاطه بمدينة ميونخ. سُرّ الملك لاستقباله. أعطاه منزلا وراتبا سنويا.
في عام 1865، تم عرض “ترستان وأيزولدة” على مسرح البلاط الملكي. لكن الحساد تدخلوا في عمله. لذلك قرر الذهاب إلى “لوسيرين” لكي يعيش ويعمل هناك لخدمة راعية الملك.
هناك قام بتلحين “ماسترسينجرز”، وهي أوبرا فكاهية، تصور الحياة المرحة أيام زمان. عندما كان ثمن الفوز بالحب أغنية، “ماسترسونج”.
• أوبرا “ماسترسينجرز” لـ فاجنر
في قصة الأوبرا، الفارس النبيل “والتر”، جاء إلى “نوريمبورج”، لخطبة الرقيقة إيفا. أوحت له الطيور بلحن غنائي. لكن كيف يتسنى له النجاح، في مباراة غنائية، يكون الحكم فيها على مدى الإلتزام بالقواعد والأصول الموسيقية؟ لكنه في النهاية، يفوز بيد حبيبته، بأغنية عفوية.
عرضت أوبرا “ماسترسنجرز” في ميونخ عام 1868. بعد ذلك، أضحى الألمان الآن متحمسين لأوبرات فاجنر. كانت زوجته قد توفت منذ عدة سنوات مضت.
في عام 1870، تزوج فاجنر من فراو، أرملة الموسيقي بولو، وابنة فرانز ليست. يقال إنه كانت بينهما علاقة غرامية أثناء زواجها السابق.
بعد أن أكمل فاجنر ملحمته، “الخاتم”، قرر أن يعرضها في مكان يناسبها. لذلك وجه نداءً إلى العالم أجمع، لكي يساعده في بناء دار أوبرا، اختار مكانها مدينة “بايرويت”.
في عام 1872، وضع حجر الأساس في احتفال كبير، عرضت فيه سيمفونية “بيتهوفن التاسعة”. كان تصميم دار الأوبرا، بحيث تكون صفوف المقاعد، صف أعلى من صف. حتى يرى الجميع العرض بوضوح. بها أيضا قاعة لعرض الصور، ومكان خفي للأوركسترا.
عندما تم بناؤها عام 1876، أصبحت هدفا لكل عشاق الموسيقى من كل أرجاء العالم. يأتون إليها، لكي يشاهدوا العرض الأول لـ أوبرا “الخاتم”. حتى امبراطور ألمانيا، لودفيج الثاني، كان حاضرا.
• قصة دار الأوبرا تجدها هنا.
قام فاجنر بنفسه بوضع كل التفاصيل الدقيقة الخاصة بالتمرين والملابس واللوحات. كان الأوركسترا، يتبع إشاراته وإيماءاته ونظراته، كذلك المغنيون والممثلون وراقصو الباليه، بدقة متناهية. كان هذا العرض، هو أول نصر عظيم لـ فاجنر. توج بالفخار وأكاليل الغار. منذ ذلك الحين، بدأت شهرته تتزايد، يوما بعد يوم.
آخر عمل لـ فاجنر، كان أوبرا “بارسيفال”. تمت عام 1882. عمل ديني عن “الكأس المقدسة”. وهي أصعب أعماله فهما. النص يعتمد على أسطورة مسيحية من القرن الثالث عشر، عن مغامرات فارس بهذا الاسم.
الأوبرا تصور الصراع بين المسيحية والوثنية، بين الخير والشر، بين النور والظلام. لذلك، اعتبرها الفيلسوف نيتشة عملا خبيثا. جعلت فاجنر من وجهة نظر نيتشة، يسقط في أحضان الفكر الظلامي الديني. بعد أن كان يعتبره رمزا للتحرر والثورة على الظلم والعبودية.
في مدينة بايرويت، بني فاجنر لنفسه بيتا جميلا، سماه “وينفريد”. كتب عنه يقول: “هنا، حيث ترقد أحلامي في سلام، أسمي منزلي، سلام الأحلام”. في هذا المنزل، كانت زوجته فراو وأولاده والموسيقى.
أطلق اسم “سيغفريد” على ابنه الأكبر. وهو اسم البطل الأسطوري المفضل عند فاجنر. في عام 1882، مع بداية المشاكل الصحية، كان مضطرا للذهاب إلى إيطاليا للحياة هناك.
أقامت أسرة فاجنر في البندقية. هناك، كان فاجنر معبود الجماهير، ثريها وفقيرها. هناك، توفى فجأة عام 1883. لم تر إيطاليا حزنا لوفاة عزيز مثل هذا الحزن، منذ وفاة البطل القومي غاريبالدي.
حُمل جثمان فاجنر عائدا إلى بايرويت، لكي يدفن في قبو بحديقة منزله. مع عزف موسيقى المارش الجنائزي من أوبرا “سيغفريد”.
وضع حجر يبين مكان دفنه. بجواره علامة أخرى تبين مكان دفن كلبه العزيز، مكتوبا عليها: “هنا يرقد في سلام الحارس الأمين والصديق الوفي، مارك”.
عبقرية فاجنر الطاغية، لا تزال تحلق في سماء بايرويت. حيث توجد دار الأوبرا، التي هي بمثابة معبد موسيقى المستقبل. في كل احتفالية، يتجمع محبو الموسيقى من كل أنحاء العالم. فتتزين المدينة بأبهى حليها، لكي تحتفل بضيوفها الكرام.
كان فاجنر مثابرا صبورا شجاعا. قضى معظم وقته في محاولة جعل العالم يفهمه ويعترف به. كان يعتقد في البداية أنه شاعر، ثم تحول للموسيقى يكتب بها الشعر.
كتب عدة أعمال أدبية. هو أعظم عبقري موسيقي ظهر بعد بيتهوفن. كان يؤمن بأن المسرح، مكان للأعمال الفكرية، لا التافهة.
لكي نفهم موسيقى فاجنر، يجب أن نستمع إليها مرارا وتكرارا. أوبراه لا تعتمد على الأغاني والدويتو، ملضومة بخيط السرد والكلام. لكنه يستخدم أسلوب الدافع الرئيسي. بمعنى أنه يعطي لكل شخصية، اللحن المناسب.
في الواقع، هناك لحن لكل مناسبة عاطفية وكل خلجة أو شجن. هناك ظلال بدرجات متفاوتة لكل لحن. كانت له قدرة عجيبة على اللعب بهذه الألحان ومزجها في ميلودي لا تنتهي. الأوركسترا، صادقة، تعكس كل صغيرة وكبيرة تحدث على المسرح.
كل تغيير للمشهد، كل إيماءة أو التفاتة، لها صداها الموسيقي. مزج بخياله المتقد، الشعر والموسيقى والحركة والإيماءات. لكي يأتي بتعبيرات مختلفة تخدم العمل الدرامي. رفع الدراما الغنائية إلى مستوى السيمفونية.
حدث في عصره جدل كبير حول موسيقاه. لكن، أليس كل إصلاح وتطوير يصاحبه جدل ورفض؟ عظمة فاجنر تتجلى أكثر فأكثر، لدى هؤلاء، الذين يعطون أنفسهم إجازة من جمال أغاني الأوبرا الميلودية.
لكي يستمتعوا بجلال الميلودي التي لا تنتهي. بمعنى، أنه بدلا من التمتع بجزر منعزلة من الأغاني الفردية والجماعية، المتعة تكون أكبر بالعمل كله كوحدة متكاملة.
________
*ميدل ايست أونلاين