تقديم وترجمة: رجاء الطالبي*
عالية هي قامة فلاديميرهولان في الشعر التشيكي، شاعر وحيد عاش على هامش المجتمع، استطاع أن ينجز أثرا شعريا عميقا حيث جماله القاسي ما زال تأثيره حتى عصرنا هذا. كتب عنه لويس أراغون في مقدمته للترجمة الفرنسية لديوانه ‘ليلة مع هاملت’ قائلا: ‘هناك في مكان ما في مرتفعات الغجر، قلب أوروبا يعيش رجل معروف بنفوره وابتعاده.
الشعراء مثل الخيول يملكون نفس الأنفة. كان هولان يكلم كل شيء هناك، نعرف أنه أعلى شجرة في الغابة التشيكية، وأقربها إلى الرعد، لذلك فعيناه تعكسان بشكل طبيعي البروق’.
ولد هولان في براغ سنة 1905، كانت فترة الحرب بين روسيا واليابان فسمته أمه فلاديميرتعاطفا مع روسيا. تعلم أن يكره روسيا واسمه وتوفي في مارس 1980، ثلاث سنوات بعد وفاة ابنته. لم يتصالح مع العالم ولا مع نفسه، سكن أعماقه واتخذها منفى داخليا، غير أن هذا الحصار سيُفكًّ تلقائيا ، ولن يطول سجن مثل هذه الكلمات، ترجم سنة 1967 للمرة الأولى إلى الفرنسية من طرف دومنيك غراندمونت، انتهت أعماله التي تنحو إلى العالمية إلى تخطي مراقبيه كان هناك إجلال ينمو حوله كتب دومنيك غراندمونت: ‘أن كلماته منبلجة من صمته، هي جمرة الباطني، سيزيف المعذب سيدحرج الصخر الحاد لكلماته، للياليه الشاحبة وعزلاته الموجعة’. كأنما شعره كان ينحت طرقه للهروب من انحطاط عصره، كان يعلي جدرانه بعيدا عن عالم يزدهر في الفساد والتفسخ، متوتر حاد عار وصلب كالغرانيت، شكوك فاغرة حكم، وشذرات متصدعة.
خبر هولان المملكة السوداء للألم، عاش في العزلة والنفي الاختياري، مس بكيانه فجائعية الحياة والعالم، واختار الابتعاد ومحاذاة هاوية الهاويات، يحمل الرعب في الأحشاء معجونا بالغضب والتضرع. رأى إلى الجدران ترتفع فنصب جدارا بداخله وحوله، مقيما ومتعمقا في بئر الألم والمنفى الداخلي الذي كان بالنسبة له أفضل من ‘الهروب نحو الأمام أو الخلف’ :
‘لم تكن الإنسانية شيئا بالنسبة لي
عشت من أجل الإنسان
ومأساته’.
ذاق هولان جرح الفقدان، ماتت ابنته كاترينا في أبريل 1977. كان ايضا يحمل موت الأمة التشيكية المتخلى عنها للسوفييت من قبل الأوربيين الذين لن يسامحهم على نذالتهم.
‘بمجرد ما أعرف الإنسان، أجهش بالبكاء’
تعرف فيه نيكولا بوفيي على شقيق للروح: ‘خلال عودتي من سفر طويل، وبينما كنت أتهيأ للاستقرار في حياة حضرية عثرت على ديوانه ‘ألم’ وعلى هذه الجملة: ‘إنها اللحظة التي تتجمد فيها البحيرة من ضفافها، بينما يتجمد الإنسان ابتداء من قلبه’ (الفجر). لم أحتج سوى لوقت قليل لأدرك أن هذا الكتاب الصغير ببريقه الشديد العتمة والأخوي سيصبح لي رفيق حياة، ودليلا روحيا. درسُ اللامعقول الذي سأحتاجه دائما، أخلاق للفشل يدندن بها رجل يشبه حكيما يابانيا يعرف أكثر من أي شخص أن الشعر يمكنه حقا أن يصل إلى قلب الهدف. سيختفي العالم كما ستخمد النجوم مثل شمعة مطفأة’.
كان هولان يكره كل الإيديولوجيات، طلق الأمل واحتجز صمته الرهيب، محروم من الكلمات لمدة عشرين سنة، يحاول أن يعيش في جزيرة براغ، حيث ألف في هذه العزلة أعمالا مسكونة باليأس، بالإملاق، وزيارة الجنون. كان هولان محتجزا في البلد الأسود للحزن وغياب الإيمان بالأمس والغد، كان يطلق قصائده في سماء سوداء لتسائل السماء وتمنح حنجرة لتقول العدم. عندما رشح لنوبل كان قد دمر كل الجسور، غارقا في الصمت منسحبا من العالم في جزيرته كامبا قرب براغ، أكثر سوادا من الليل:
‘وحده الإله لا يحتاج لشيء، لا يحتاج إلينا ولا لنفسه’.
كلمات بسيطة لكنها كالماس صدعته الكارثة.
‘في عزلتي المحبوبة، كان لدي قبضة من التراب لأستقبل وأحيا أهوال المرحلة’.
القصائد المترجمة.
أكثر 1
أكثر شبابا لننسى الاحتضار،
لحظات الوداع،
أكثر إنسانية لنعرف
أن لا شيء يستحيل على الحكمة
المتوسلة تحولها،
أكثر هروبا لنجهل
أن الأوهام هي أيضا تغار
إلى أن ندمرها بانشراح.
****
أكثر 2
حياتنا أكثر قصرا
لنفهم
أن الجسد لا يريد شيئا.
حياتنا أكثر طولا
لنفهم
بروق الروح.
أحيانا ، نتعجل…
*****
الأم
حتى ولو لم يكن الإله موجودا، والروح غير موجودة.
حتى ولو كانت الروح موجودة، وكانت زائلة،
حتى ولو لم يكن نشور،
إذا لم يكن شيء بعد الموت، لا شيء،
إذا كانت حصتنا من هذه الكوميديا أنا وأنت سوى الشفقة،
رثاء لهذه الحياة التي ليست سوى نفَس، عطش، وجوع،
تزاوج، مرض، وألم…
بينما وأنا أمشي بين الخلنج المزهر، أنصت إلى سؤال طرحه طفل. لماذا؟
لم أعرف بِمَ أجيبه، ولا أستطيع
بعد مرور عدة سنوات،
أن أجيبه، حتى الآن
والقمر في كبد السماء،
لأن الطفل لا يكتفي بالإجابة، ولا الإنسان يكتفي بالسؤال. عندما
تنبثق طفولتي وتأخذني بلطف من يدي.
أباشر الغناء.
عندما أفكر في إكليل المسيح الشوكي.
يلجمني الفزع.
عندما يحط نظري على العليق أرى عش عصفور
أبقى هناك، لأنصت.
لكني بمجرد ما أتعرف على الإنسان
أجهش بالبكاء.
******
لكن نعم
لا، ولا كلمة …يمكنها أن تكلم الصمت
لكن يمكن في هضبة الضباب
أن تكونَ بصدد تذوُّق السمّان تواضعا،
أصغر حجما من الحجل…مع ذلك وحده لعابك
يشي بأنك تفترس الإنسان.
******
ماشياً
إذا لم نشعر بأننا ضائعون
فلأننا كذلك، تائهون، عما يجري للآخرين
وفي نفوسنا.
تائهون عن ذلك، نكتب رسالة والظّرفَ،
نختم ونسطر: لا تُفتَح إلا بعد موتي!
لكن أن نتيه، وأن نعجز
عن العثور الآن على القمر في الكتب، والليل فقط في المقروء،
أن تجهل نهايتك وحدودك،
ألا تكون وحدك، لكن تكون ضائعا،
كما لو أن ألمه الخاص وألم غيره
يلدان قلبا ثالثا.
********
أقل من أن يقال
الصمت عن أي شيء، ومن أي شيء.
هذا ما ينتظرنا…
******
لتكتمل الصورة
جدار…جدار قاتم حبا في البستان
كراهية في الإنسان.
بجوار الأعماق هناك اشجار أكثر
من الفواكه.
توجد في الخارج خطايا أكثر من الأفخاذ.
هذا الجدار، على سمكه، وعلى كونه
عاليا وحادا، يغوي.
لتكتمل الصورة، هناك أفاع
بين شقوقه تراقب. جدار جيد!
* شاعرة ومترجمة من المغرب
( القدس العربي )