هيذر مونلي / ترجمة : برهان جبر الشوفي
لم يثر دهشتنا في تلك البلدةِ آنذاك أن يتحول الأطفال إلى طيور، كما قد يبدو لك، إذ لطالما تحول الأطفال إلى أشياءَ لا يمكن توقعها، فقد حدث في ذلك الوقت، أن أطال الأولاد شعورهم حتى بدوا كالفتيات، وارتدت الفتيات بناطيل الأولادِ الثقيلة…. وهكذا عندما امتلك أطفال قريتنا ريشاً و طاروا نحو الأشجار، ظننا أن ذلك لا يخرج أبداً عن ذلك السياق !
عندما لم يعد الأطفال إلى المنزل وقت العشاء، ثم لم يعودوا بعد ذلك مطلقاً، بكت الأمهات… وطال بكاؤهنّ.. ولكن ذلك أيضاً لم يكن مستغرباً، فمن عادة الأمهات أن يبكين لأشياء فعلها الصغار.
لم يطل التحول كل الأطفال دفعةً واحدةً، بل بدأ أولاً بالأشقياء منهم ، أولئك الذين يتوارون خلف حاويات القمامةِ ليدخنوا السجائر ويحطموا الزجاجات في حصص الفراغ. وما إن بدأت تلك الطيور السوداء الكبيرة تحوم حول بيوت الأهالي، تنتظر عند الشبابيك و تضرب على الأبواب، حتى عرفنا بما حصل …
هز الناس في المدينة رؤوسهم قائلين: هؤلاء الأشقياء لن يكفوا عن إيجادِ أساليبَ جديدةٍ لإزعاج الآخرين.
بعد فترة، بدأ التحول يطال المزيد من الأطفال، الأطفال الجيدين، وأولئك الواعدين بمستقبلٍ زاهر، حتى اختفى صف المرحلة السابعة بكامله. ولما لم يكن أخي يصغر أولئك الذين طاروا بكثير، فقد قصت أمي شعره متأملةً عينيه بحرصٍ وخوف !
قبيحةٌ تلك الطيور… كبيرةٌ ذات ألوانٍ قاتمةٍ، وبأعناقٍ طويلةٍ ملتوية. لقد كانت – كما علمنا- سلالةً من فصيلة الغاق. ربما تحولٌ عميقٌ من نوعٍ ما كان يبدأ داخل جسم الصغير خلال أسابيع، أو ربما كانت بذرة التحول موجودةً داخل أجسامهم منذ الولادة. المهم أن التحوّل كان يحدث فجأةً وبشكل مباغتٍ، من دون أن نلحظ أعراضاً مسبقةً، كنت أصغر بقليل من الأطفال الذين طالهم التحول. وكانت تخيفني آنذاك خشونةُ من يكبرونني سناً، ولم يتغير كرهي لهم بعد أن تغيرت هيئاتهم. كنت أراهم بصورهم الجديدة في نزهاتي مع أمي إلى ضفة البحيرة حيث يتجمعون، فأراقبهم بعيون باردةٍ مشدوهةٍ وهم يتحصنون بين أغصان الأشجار، يتشاجرون، و يصرخون بصخب.
عملية التحول كانت تعني اعتزال هذا العالم، والانتقال إلى عالمٍ جديد. تبدأ العملية حين يتوارى الولد في الحمام أو ينزوي في ركنٍ معينٍ بعيداً عن الأنظار، و ذلك يكون آخرَ ظهورٍ له بصورته الآدمية.
حينما جاءنا – في ذلك اليوم – اتصالٌ من المدرسة يخبرنا بأن أخي تغيب عن حصة ما بعد الظهر، كان هذا بمثابة إعلامنا بأنه قد التحق برفاقه… وفي المساء سمعنا خربشةً على شباك المطبخ، استدارت أمي تاركةً الموقد، محمرة الوجه من بخاره الساخن وفتحت النافذة، فتسلق الطائر بصعوبة، ورمى بنفسه إلى الداخل، متخذاً مكانه الاعتيادي على طاولة الطعام، ولكن ما إن سكبت أمي الطعام في طبقه حتى دفعه بمنقاره الطويل، ولم يأكل شيئاً، ثم قفز على الطاولة ووقف في وعاء السلطة، ثم طار محلقاً قريباً من السقف، حتى فتحنا له الباب الخارجي فحلق عالياً لتحتضنه عتمة الليل.
لقد أفسد طعامنا و كسر الشمعدان، كما لوث ببرازه إحدى وسادات الكراسي….و طار… تلك هي آخر مرة دخل أخي فيها إلى البيت، كانت أمي تجمع الطعام له من الأسماك و السرطعون وأنواع محددة من الحشرات و تضعهم على عتبة النافذة أحياء ليلتهمهم جميعاً. و حدث أن حاولت مرة مدَّ أصابعها لتلمس ريشه و لكنه حلق مبتعداً. ومن حينها لم يعد للنافذة بل صار ينتظر طعامه على المرج الأمامي, ماداً رأسه تارة للأمام وتارة للخلف، فصارت أمي تقف في الباحة وترمي الأسماك الحية وهي تنتفض وتتلوى، حتى توقف أخي عن المجيء إلى المنزل. و اختفى بين أشجار البحيرة.
بحثت وأمي عنه حول البحيرة حيث تتجمع تلك الطيور وتغوص في الماء ” هذا هو ” قالت أمي مشيرةً إلى طائر يفرش جناحيه على صخرة ليجفف ريشه. ” يجب أن يكون هو، على ما أظن “..
مع مرور الأشهر، غيرت الطيور ريشها من لون الطفولة الداكن إلى لون النضج الأسود الحبري. وفي فصل الصيف، جمعت العيدان والأعشاب والبقايا، و بنت أعشاشها عالياً في الأشجار حيث أمكننا مراقبتها من خلال المناظير.وسرعان ما بدأت الرؤوس الصغيرة تمتد من الأعشاش. لقد كان هؤلاء أحفاد البلدة…
استمر الأولاد بالتحول،قلةٌ فقط هم من بقوا على صورتهم الآدمية، كانت الغالبية ترفرف باتجاه البحيرة حال بلوغها سناً معيناً.
مع مرور السنين، أصبح ذلك اعتيادياً، و كلما نبتت بضعُ شعيراتٍ في ذقن ولد، و كلما تعلمت طفلةٌ ضحكة الصبا كان الكبار يهمسون : لن يطول الأمر. بتنا نرى الأولاد يذهبون إلى صفوفهم الفارغة، صامتين و شاحبين. أما نحن –الأصغر سناً – لم نكن نتمنى أن نكون من المجموعة الناجية فقد كنا – في الحقيقة – مهيئين لحياة الطيور.
ما لبثنا أن تحولنا إلى أطفال همج. نجلس على شاطئ البحيرة لنرمي الحصى في الماء- باتجاه الطيور ربما – ولكن ليس بقصد إصابتها. كنا – في الواقع – نخافها جداً . أصبحنا نركض عبر الشوارع و حول البحيرة، نراقب الطيور تغوص و تخرج ممسكة بالأسماك. ” لماذا نعلمهم الأخلاق؟ “ تساءلت الأمهات. ” لن يلبثوا حتى يتحولوا إلى طيور.”سريعاً أدركني عمر التحول، و بدأ أقراني باتخاذ هيئاتهم الجديدة. و قد حدث ذات مرة أن لاحظنا أحدهم ينسل من الحصة فتبعناه إلى الباحة. توقف، و ظهره باتجاهنا، ثم لف ذراعيه حول جسمه، و بدا كأنه يرتدي قبعة سوداء، و ما إن اقتربنا حتى تحولت القبعة إلى ريش، ما لبث أن انتشر مشكلاً جناحين. ثم ارتفع عن الأرض و حلق باتجاه الشجرات اللواتي تحطن بالمدرسة… و عندها لم يعد بإمكاننا تمييزه.
واحداً تلو الآخر، اختفى الأولاد. تركت أنا المدرسة، تسلقت الأشجار و اختفيت عن الأنظار منتظراً دوري … و عندما بدأ من هم أصغر مني سناً بالتحول عرفت أن القطار قد فاتني و رحل…
لم يكن للبلدة المنكوبة أن تستمر بهذه الطريقة طويلاً، فأجيال الأطفال لم تكد تصل سن البلوغ حتى تتحول، و لم يتبق أحدٌ ليدير الأعمال. أُغلقت الشبابيك في الشوارع العامة. جمعت العائلات أشياءها و غادرت البلدة. ومن لم يلتحق بقافلة المتحولين ترك البلدة بأسرع ما يمكن.
بقيت مع أمي، لم نتمكن من الرحيل … كانت تراقب طيور الغاق تطير قريباً من الأرض مادةً أعناقها، سابحةً بأجنحتها في الجو …مازالت أمي تتكلم عن أخي ، تؤكد دائماً أنه من أفضل الأولاد. كان يريد أن يصبح طبيباً.
أما أنا فأتمشى أحياناً إلى البحيرة و أجلس على ضفتها، أراقب الطيور على الصخور، في الأشجار، وفي الماء…. في المكان الذي يظهر فيه بوضوح النشاز الذي أصاب جمال بلدتنا… براز الطيور المتراكم غطى الأشجارَ الكبيرةَ حول البحيرة وقتل الصغيرةَ منها…. أخلع ثيابي، وأقف قبالتها محدقاً في عيونها التي تبدو كجواهر… أغوص في البحيرة وأتخيل الماء يمشي على جلدي، و أبوح بشيء ما في الأعماق: خذيني بعيداً أيتها الطيور… خذيني بعيداً.
كثيرةٌ هي الأماكن التي اندثرت. لا تختلف بلدتنا عن أي منها.
نبذة عن الكاتبة هيذر مورلي
كاتبة أمريكية شابة لها عدة مشاركات في دوريات مختلفة تحمل درجة ماجستير في الفنون الجميلة من جامعة كولومبيا، و تعيش حالياً في بروكلين. و قد فازت قصتها «بلدة الطيور» بالجائزة السنوية الأولى للفصلية الأمريكية :
The Kenyon review لعام 2013
________
*مجلة عُمان