القنبلة برتقالة والرصاصةُ زهرة


*أدونيس

– 1 –

 كلّ شيء في مناخ «الربيع العربيّ» يندرج في الخلط العجيب، خلط السياسات والإيديولوجيات والاستراتيجيات. الأمكنة نفسها «ظلماتٌ بعضها فوق بعض». لكنّ الواضحَ حتى الآن، هو أنّ هذا «الربيع» لا يثبت مدى قدرة العرب على التحرّر، بقدر ما يثبت مدى تأثير الدين، من جهة، ومدى هيمنة الخارج الأجنبيّ، من جهة ثانية. في كلّ حال، تتوضّح في هذا المناخ، القضايا التالية:
1 – الأولى هي أوّلية المسألة الدينيّة في المجتمع العربيّ، سلباً وإيجاباً، على جميع الأصعدة، وبخاصّةٍ الثقافيّة – الاجتماعيّة.
الثانية، هي ثقل المال وخفّة الإنسان.
الثالثة، لا مكان في «النّظام» إلا لمن يرتبط به عضويّاً. ولا مكان في «المعارضة» أو «الثورة» إلا لمن يرتبط بهما عضويّاً. في الحالين: إلغاء الفرد وذاتيّته واستقلاليته وحريّته. الفرد في الحالين آلة، أو مجرّد أداة. والعرب اثنان: خيرٌ وشرّ: إمّا أنت وإمّا أنا.
الرابعة، وحدة «النظام والمعارضة»، فيما وراء السلطة، في بنية ثقافيّةٍ واحدةٍ، جذريّاً. لا قطيعة بينهما، ولا فرق بينهما، على هذا المستوى. والخلاف بينهما «شكليّ» محصورٌ في السلطة.
لا يتطوّر المجتمع إلاّ بالقطائع الجذريّة. الاستمرار في التماثل جمودٌ وتخلّف. المعارضة، وبالأحرى الثورة، هي أولاً تهديم هذه البنية والخروج منها.
الخامسة، غياب الثقافة. لا معنى للحاضر، في «الثورة» – وفي «النظام»، إلا بوصفه معاصرةً للماضي، وتماثلاً معه، وتماهياً مع مُثُلهِ وقِيَمِه ورموزه.
– 2 –
من يتأمّل عميقاً في الأوضاع العربية الراهنة يشعر أنها كمثل درجاتٍ أو سلالمَ مصنوعةٍ للهبوط – الهبوط عميقاً إلى الأسافل، إلى ما لا قرارَ له. يشعر أن التواريخ التي محتها الأيّام تنبعث بفعل الأيام ذاتها. يشعر أنّه انبعاثٌ غريبٌ يفرض هذا السؤال (القديم – المتجدِّد):
هل الكوكب الذي يُسمّى «الإنسان»،
ينطفئ حقّاً؟
– 3 –
تبدو الأفكار السياسيّة في هذا العصر، كمثل أجنحةٍ تسبح في محيطٍ كونيّ من الدماء: لا تستطيع أن ترفرفَ عالياً. وتجهل أسرارَ الفضاء.
– 4 –
كيف نفهم التاريخ العربيّ عِبْرَ الصراع في سورية، وعليها؟ وهل يمكن فهمه إلاّ في ارتباطه العميق بالجغرافية السوريّة؟ وهل السوريّون أنفسهم هم أوّل من يعلم ذلك، أم آخر من يعلم، لسببٍ أو آخر، بشكل أو آخر.
يقول نابليون ما معناه: عندما نعرف جغرافية دولةٍ ما، فإننا نعرف سياستها الخارجيّة. ولا بدّ من أن نضيف: نعرف كذلك سياسة الدول الأجنبية إزاءها.
في هذا السياق نفسه، يحدّد نابليون أيضاً الاستراتيجية بأنها فنُّ استخدام الزّمان والمكان، عسكريّاً وديبلوماسيّاً.
استراتيجيّاً، كيف نحدّد، اليوم، في ضوء «الربيع السوريّ ضفافَ البحر الأبيض المتوسّط؟ أهي ضفافٌ عربيّة؟ تركيّة؟ أوروبيّة؟ أميركيّة؟ روسيّة؟
هل الضفافُ الشرقيّة عربيّة، أم إسلاميّة، أم عربيّة – إسلاميّة؟ وما مكانُ إسرائيل؟ هل إسرائيل غربيّة أم شرقيّة، وكيف؟ وما دور الرؤية الوحدانيّة الدينيّة في تحديد هذه الضفاف؟
ما دور القرب، جغرافيّاً؟ فرنسا، مثلاً، أكثر قرباً إلى الإسلام العربيّ – الإفريقيّ، منها إلى الشمال المسيحيّ؟ هل لهذا دلالةٌ، وما هي؟
ثمّ إنّ الغرب، اليوم، لم يعد مجرّد مكان جغرافيّ. إنه، إلى ذلك، شكلٌ اجتماعيّ، أو هو مجموعة من المعتقدات والمنجزات رسمت تاريخَه، وتدعم هيمنته. الغرب، اليوم، بتعبير آخر، ليس منطقة جغرافيّة بقدر ما هو
«حضارة». فمَن نحن العرب، في هذه الحضارة؟ أو ما مكان العرب ومكانتهم فيها؟ خصوصاً أنّنا نعرف أنّ الخاصّيّة الأولى لإسرائيل، خلافاً للعرب، إنما هي القوّة، امتداداً للغرب الذي كانت خاصّيته التاريخيّة الأولى في القرنين التاسع عشر والعشرين تتمثّل في القوّة، كما تقول حنّة آرندت. ويوماً فيوماً تثبت التجربة الإسرائيلية ما يسمّيه ريمون آرون «عجْزَ القوّة»
L’impuissance de la force . حقّاً، لا قوّة للقوّة أو لمثل هذه القوّة.
ثمّ هل إسرائيل دولة ديموقراطيّة، فعلاً، لكي تكون، أو لكي يُنظَر إليها، بوصفها جزءاً من الغرب الديموقراطيّ؟ وكيف يمكن أن تكون ديموقراطيّة وليس لمواطنيها الذين يحملون الجنسيّة الإسرائيلية الحقوق نفسها؟ إذ ليس للمواطن ذي الأصل الفلسطينيّ الحقوق نفسها التي يتمتّع بها المواطن ذو الأصل اليهوديّ.
أضيف أنّ الحوار الدينيّ – السياسيّ – الاقتصاديّ – الثقافيّ بين العرب والغرب أدّى اليوم إلى دعم الأنظمة الرجعيّة والديكتاتورية، ودعم الرأسماليّة الأميركيّة، وعدوانها، ودعم إسرائيل في سياساتها القائمة على القوة، التي يمكن أن تدمّر، ولكنها لا يمكن أن تنتصر.

– 5 –
هكذا يبدو أنّ الحوار بين العرب والغرب أكثر من كونه مسألة دينية أو سياسيّة أو اقتصادية أو حتى ثقافيّة. إنه مسألة الاعتراف بكينونةٍ تنهض على أنّ الآخرَ عنصرٌ تكوينيّ للذّات، وعلى أنّ الذّات حتى عندما تسسير نحو نفسها لا تقدر أن تصل إليها إلا مروراً بالآخر.
وتلك هي المسألة.
وإنها لمفارقةٌ كبرى أن نرى الدول العربية اللاديموقراطية تعترف بحقوق إسرائيل، وأنّ إسرائيل المسمّاة ديموقراطيّة لا تعترف بحقوق العرب، وبخاصّة حقوق الفلسطينيين.
– 6 –
ما للحريّة، اليوم، في السياسة الغربيّة خصوصاً،
تصير سلاحاً آخر
لابتكار عبوديّات جديدة!
– 7 –
بسرعةٍ يسير العالم إلى المنحَدَر،
ونحن العرب في طليعة الشعوب المُختارة
لحمل رايات الانحدار.
– 8 –
«مسرح القَسْوة»: لو كان انطونان آرتو حيّاً
لرأى بأمّ عينه كيف تستبسل «الرّحْمَةُ»
في خَلْق مسارحَ لأنواعٍ جديدةٍ من القَسْوَة
لم يفكّرْ بها، ولم يتخيّلْها.
الواقع هنا أيضاً يتفوّق على الخيال.
– 9 –
بدأت «الجموعُ» تُصادرُ الكلامَ
بعد أن صادرت الرياضة والغناءَ وبقيّة الفنون.
سابقاً، كانت الإيديولوجيات تتنافسُ في هذه المصادَرَة،
اليوم تتنافس «البلدان» و «الأممُ» – متّحِدةً ومتفَرِّقة.
– 10 –
سابقاً، كان النّضالُ يَعْني أن يترجِمَ المناضل هويّته في أفكارٍ وبرامجَ وخططٍ للسموّ بالإنسان.
لاحِقاً، صار النّضالُ يعني أن يترجِمَ المناضلُ هويّته في أسلحةٍ
فتّاكةٍ «نوعيّة!»،
وفي أعمال قتْلٍ وتدميرٍ وسلْبٍ ونَهْب.
استطراداً، كان «الكناريّ» في «عصر الظّلمات»، يعيش بفضل صوته، واليوم في «عصر الأنوار» يعيش بفضل فائدته – شحماً ولحماً. ولم يعد الهدهدُ رسولاً، وإنّما صار جاسوساً.
أهو تطوّرٌ إنسانيّ، حقّاً؟ أيمكن القول مثلاً في هذا الإطار إنّ «تصنيعَ» العالم شكلٌ حديثٌ لتقبيحه؟
التّصنيع، مثلاً، يهيمن على الثقافة: صارت «سوقاً»، خصوصاً في جوانبها الفنّيّة.
واليوم يسهِم بعضُ العرب (لا كلّهم، لحسن الحظّ)، في ابتكار وجْهٍ آخر لهذا التّقبيح: تصنيع الموت. يُقتَل الإنسان بوصفه إنساناً، ودون تمييز، حيثما أمكن – في البيت، في المدرسة، في العرس، في المأتم، في الشارع، في المعمل، في المسجد، في الكنيسة…
الموت (قتلُ الآخر، أو قتل الذات – انتحاراً) عملٌ – صِناعة. وله أجرٌ مزدوج.
تصنيع المادة يلوِّث الطبيعة. تصنيع الموت يلوِّث الإنسانية.
الحياة في هذا التصنيع عربةٌ من الغبار،
والمعتقداتُ ثيابٌ وأرغفةٌ وأباريق،
حيث القنبلة برتقالة، والرصاصةُ زهرة.
– 11 –
تعلّمنا التجربة التاريخية في جميع الميادين وعلى جميع الصُّعُد أنّ كونَ إنسانٍ معَيَّنٍ لم يمُتْ بعد، لا يعني بالضرورة أنه لا يزال حيّاً.
__________
*الحياة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *