رثاء عربي غير مكتمل لغابرييل غارسيا ماركيز


*حسن سلمان

شكل رحيل ‘أبو الواقعية السحرية’ غابرييل غارسيا ماركيز صدمة كبيرة لدى المثقفين العرب، وخاصة أن أغلبهم يدين في بعض نتاجه للأديب الكولومبي الكبير الذي عرف كيف يطوّع الخيال ليصنع ادبا عجائبيا يحمل هموم الواقع المغرق بالمحلية ويعيد إنتاجه بقالب عالمي يصلح لكل الأزمنة.

وإذا كان ماركيز انبهر، كغيره من أدباء أميركا اللاتينية، بالتراث العربي والشرقي عموما، فإنه رواياته المفعمة بالإنسانية شكلت موردا هاما لأغلب الأدباء العرب.
ويبدو أن ماركيز نجح إلى حد بعيد في توظيف خبرته الطويلة في الإعلام والسياسة ليلتقط تفاصيل صغيرة ويعيد نسجها في حكايات بسيطة شغلت أهل الفكر والسياسة لنصف قرن، ودعت عددا كبيرا من الزعماء في العالم لكسب وده، رغم انتقاده المتكرر لهم في نتاجه الإبداعي.
كمال الرياحي: فقدان ماركيز أهم من رحيل محفوظ
ويقول الروائي التونسي كمال الرياحي إن غياب ماركيز يمثل حدثا كبيرا لأي روائي عربي ‘من ناحية فقدان كبير لروائي كان له من الكفاءة الإبداعية والسردية ما جعله يستمر في الكتابة لسن متقدمة’.
ويضيف لـ’القدس العربي’: ‘أشعر أن ماركيز اقترب كثيرا من الأدب العربي، فرواياته تعبر عن البيئة العربية بكل تفاصيلها، وخاصة الجو السحري والتعلق بالموسيقى والأساطير وعوالم ألف ليلة وليلة وغيرها’.
ويذهب الرياحي بعيدا حيث يؤكد أن فقدان ماركيز قد يكون أهم من فقدان نجيب محفوظ بالنسبة للروائيين العرب، مشيرا إلى أن نتاج الأديب الكولومبي متوفر لدى أغلب القراء العرب وبلغات متعددة.
ويرى أنه ماركيز ‘أبو الأدب اللاتيني’ هو أحد الأسباب الرئيسية لانتعاش الجنس الروائي في العالم، و’إذا كان البعض يعتقد أننا في زمن الرواية، فإني أرى أن نعيش زمن ماركيز′.
وتحدث الرياحي عن العلاقة المتواترة بين ماركيز و’صديقه اللدود’ الأديب البيروفي ماريو فارغاس يوسا، مشيرا إلى أن ‘الصراع الأدبي’ بين الرجلين قادهما لاحفا لنيل جائزة نوبل.
وأضاف ‘ما يميز ماركيز هو أنه قادر على صناعة الأحداث حتى وإن لم يكتبها، نذكر على سبيل المثال اللكمة التي تلقاها من يوسا إثر خلاف مع يوسا، حيث لجأ إلى مصوره ليلتقط له صورة عينه المتورمة وهو يضحك، بمعنى أنه حوّل هذه اللكمة أو الحادثة البسيطة إلى حالة إبداعية’.
وكان يوسا اكتفى بالتعليق على حادث رحيل صديقه ماركيز بالقول ‘إن رجلا عظيما قد مات. أثرت أعماله الأدب الإسباني وحلقت به إلى آفاق أوسع′.
زهور كرام: استثمار رحيل ماركيز في الحديث عن راهنية الإبداع
وترى الأديبة المغربية زهور كرام أن رحيل مبدع حقيقي بحجم ماركيز هو خسارة للبشرية ‘التي تعيش الآن فوضى المفاهيم، والتباس معنى الوجود، بسبب دمار الوجدان الذي بدأ يفقد لماء الإنسانية، واختناق الخيال مع هيمنة التكنولوجيا التي تتحول مع سوء توظيفها من مجرد وسيط من المفترض أن يخدم الإنسان، ويهيئ له مساحة من التفكير الحر، وتنشيط خياله إلى سلطة تعطل الخيال والفعل’.
وتضيف لـ’القدس العربي’: ‘عندما تفقد البشرية قيمة إبداعية خلاقة، فإنها تعلن الفقد مأساة. قد يختزل هذا الإحساس رحيل الكاتب العالمي غابرييل ماركيز، الذي شكل حضوره الإبداعي ثروة إنسانية تمثلت في قدرته البليغة على استثمار الخيال، وجعله ملازما للواقعي من أجل بناء حالة إبداعية جعلت من كتاباته ملتقى التفاعل الإنساني’.
وترى أن رواية ‘مائة عام من العزلة’، التي كتبها ماركيز عام 1967 ونال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1982، تشكل نقلة نوعية في مسار كتاباته و’أهم مدخل لعالم هذا المبدع الخلاق’. 
وتشير إلى أن ماركيز قال ذات يوم إنه استوحى أحداث الرواية من الحكايات الشعبية والخرافات الغرائبية التي كانت تحكيها جدته عندما كان طفلا، وتقول إن ‘مئة عام من العزلة شاهدة عن كون زمننا أنجب مبدعا أجاد عشق الخيال’.
وتضيف ‘وهنا، لابد من استثمار بعض مقومات التجربة الرائدة عند ماركيز وهو جودة تدبير ذاكرة الطفولة واستلهام غناها الحكائي الذي جعل ‘مائة عام من العزلة’ تنفرد بتميز سرد العوالم الغرائبية وسحر العجائبية، إلى جانب قوة اللغة الإبداعية الإسبانية’.
وتتساءل كرام عن مصير الإبداع مع اختناق شروط الخيال، و’كيف يمكن للبشرية أن توثق رؤاها، وفلسفة وجودها في إبداع بدأ يقترب أكثر من الواقع؟ وكيف يمكن تمثل الإبداع في زمن تراجع الحكايات، وهيمنة التقنية؟ وهل من الممكن أن نتحدث عن توجه جديد للممارسة الإبداعية في ظل شروط تكنولوجية؟ كيف نستطيع أن نجعل من رحيل ماركيز المبدع الخلاق محطة مهمة لإعادة طرح سؤال راهنية الإبداع في الزمن الحالي؟’.
يوسف رزوقة: ماركيز الصحافي التقط الأحداث بعد أن اكتوى بحرائقها
ويؤكد الأديب التونسي يوسف رزوقة أن ماركيز كان ‘بمثابة الكاميرا التي تلتقط التفاصيل لكونه كان صحافيا أيضا ملما بالأحداث ويكتوي بحرائقها، وهو ما خوله أن يكون مرآة عاكسة لعصره وعاملا في مسار السرد العالمي’.
ويؤكد أن العالم لن يستطيع نسيان ‘كبير كتاب العالم’ الذي ‘أعطى زخما روائيا كبيرا جعل قراء العربية والعالم يحترمونه، وجعل من الرواية علامة فارقة في مستوى المصطلح’.
ويضيف ‘ماركيز أكبر رواد السرد وهو لن يموت لسبب واحد هو أنه أضاف للمدونة السردية روايات مثل ‘مئة عام من العزلة’ و’الحب في زمن الكوليرا’ وهي ستظل في الذاكرة وتؤسس لسرد مستوفي لشروطه الإبداعية بما له من زخم بالأحداث وعيون لاقطة لكل التفاصيل الصغيرة’.
وأكد رزوقة أيضا ولع أدباء أميركا اللاتينية بالمشرق وتطويع حكاياته في نقل واقعهم المعاش، وأشار في الوقت نفسه إلى أن ماركيز يشاطر أقرانه في كتابة سيرته الذاتية التي يمكن استثمارها سينمائيا لاحقا، مؤكدا أنه ‘لا يستغرب أن يكتب ماركيز عن الجانب الأنثربولوجي فيه لأنه يعتبره أيضا ارتدادا لرواياته السردية’.
مسعودة بوبكر: ماركيز نجح بتحويل الواقع المحلي إلى حالة عالمية
وتقول الأديبة التونسية مسعودة بوبكر ‘غابرييل غارسيا الأديب الكبير الذي تربينا على نصوصه وفي ذائقتنا الأدبية الكثير منه، ولا نستطيع أن نتصور أدبا سرديا أو رواية دون التفكير في ماركيز′.
وتشير إلى أن الأدب العربي تأثر كثيرا بماركيز كأبرز أعلام أمريكا اللاتينية ‘الذي تأثر بدوره بحكايات ألف ليلة وليلة والتراث العربي، كما أن الأدباء العرب تأثروا بأسلوبه في سرد الحكاية وتفاصيلها العديدة والتحليل النفسي والاهتمام بالواقع القريب الذي يجعل منه بمحليته أمرا عالميا، أي: تطوير الحالة المحلية إلى عالمية’.

هيام الفرشيشي: ماركيز كان قريبا جدا من الروح العربية
وترى القاصة التونسية هيام الفرشيشي أن رحيل أديب مثل ماركيز سيعيد تسليط الضوء على منجزه الإبداعي والنتاج الأدبي لأميركا اللاتينية عموما و’مدى ارتباطه بتحرر الشعوب من بوتقة القوى المهيمنة، والاشتغال على المحلية الضيقة التي تستثمر هموم الإنسان في كل مكان’.
وتضيف ‘يجب أن لا ننسى أنه اشتغل على سمات مهمة تفتح آفاق الفكر كالعزلة والبحر، وسيؤثر نتاجه على اعادة الاعتبار للأدب عموما’.
وتشير إلى أن ماركيز ‘أعاد إنتاج الخيال العربي من خلال إطار طبيعي وسياسي مختلف ولهذا كان قريبا جدا من الروح الشرقية والعربية’، مشيرة إلى أن رواياته شكلت جواز سفره إلى عدد كبير من الدول وخاصة أميركا التي كان ممنوعا من الدخول إليه حتى مجيء الرئيس الأسبق بيل كلينتون الذي ألغى هذا الأمر.
يذكر أن كلينتون أكد في وقت سابق أنه يشعر بالفخر لأنه كان أحد أصدقاء ماركيز طيلة عقدين، وأضاف ‘حين قرأت روايته مائة عام من العزلة قبل 40 عاما، شعرت بالذهول من قدرته على التخيل ووضوح الفكر، والأمانة العاطفية’.
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *