“الدين والعلمانية في سياق تاريخي”: لعزمي بشارة



صقر أبو فخر *

العنوان: الدين والعلمانية في سياق تاريخي

المؤلف: عزمي بشارة
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات -الدوحة


السنة: 2012

عدد الصفحات: 496


يأتي صدور هذا الكتاب[1] في أوانه تماماً كمطر نيسان، ولا أجازف بالقول إنه فتحٌ باهر في الفكر العربي المعاصر الذي نضب فيه، إلى حد كبير، معين الإبداع والتجدد منذ نحو ثلث قرن، بعدما عاد الفكر النقدي إلى ركوده ورقاده، وبعدما تسيّدت الميدان التيارات الإسلامية الجديدة أو المتجددة. وكتاب “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” ليس مجرد كتاب في الفلسفة فحسب، أو في الأنثروبولوجيا وحدها، أو في التاريخ وخصوصاً تاريخ الأديان، أو في السوسيولوجيا أو الميثولوجيا، بل إنه ذلك كله معاً. ولا يعني هذا الأمر أنه كتاب توليفي أو مائدة تتضمن جميع ضروب الثقافة، إنما هو، بالفعل، نسيج معرفي متشابك وفريد في الثقافة العربية المعاصرة، وهو جزء أول من مشروع متكامل (ثلاثة أجزاء كبيرة) يتضمن دراسة معمقة عن “المقدس والأسطورة والدين والأخلاق”، وفيه تركيز على التجربة الدينية والسحر والتدين وخصوصية الإيمان الديني، ومعالجة وافية لنقد “نقد الدين”. وفي هذا الميدان يتناول الكاتب كانط وهيغل وماركس وماكس فيبر، ويدرس التناقض “المزعوم” بين الدين والحداثة كما ظهر لدى ماكس فيبر، ثم ينثني إلى دراسة مصطلح “الدين” وتعريفاته اللغوية والوظيفية وقصور هذه التعريفات، لينتقل، بعد ذلك، إلى الخلاصة القائلة إن من المحال فهم التدين في عصرنا من دون فهم العلمانية والعلمنة.

إن الدافع الفكري إلى تأليف هذا الكتاب هو توصل الكاتب إلى نتيجة تقول إن إشكالية الإسلام والديمقراطية هي إشكالية وهمية، وأنْ لا علاقة تستحق البحث بين الإسلام والديمقراطية أو بين المسيحية أو اليهودية والديمقراطية، بل إن ما يستحق البحث حقاً هو علاقة أنماط التدين بالديمقراطية (ص 7). ويرى الكاتب، في هذا الحقل المعرفي، أن ثمة فارقاً جوهرياً بين الدين وأنماط التدين، ولذلك يتصدى بالبحث لعلاقة الدين بالتجربة الدينية، ويوضح الفارق بينهما، ويُفصح عن أن تجربة المقدس لا تميز التجربة الدينية وحدها. والدين، بهذا المعنى، ليس هو تجربة المقدس (ص 10) فقط. ولمزيد من التعمق في هذه الفكرة يتوفر الكاتب على اكتشاف المشترك والمفترق بين الدين والأسطورة، وبين الدين والسحر، وبين الدين والأخلاق.

هذا الكتاب شوط جديد مهم في مسيرة طويلة من البحث العلمي كان من روادها في الغرب لويس مورغان في كتابه “المجتمع القديم”[2] (1877)، وجيمس فريزر في كتابه “الغصن الذهبي”[3] (1900)، علاوة على إدوارد تايلور وكلود ليفي شتراوس وآخرين. ولعل عزمي بشارة في كتابه هذا هو جيمس فريزر عربي حديث، بمعنى أنه يؤسس لأنثروبولوجيا عربية جديدة كما أسس جيمس فريزر لطريقة في البحث الإناسي منذ أكثر من مئة سنة. ولا ريب في أن هذا الكتاب مرشح لأن يصبح مصدراً معرفياً مهماً في خضم السجالات التي أطلقتها المتغيرات العربية الجديدة التي فتحت الأبواب على مصاريعها لمناقشة الإسلام السياسي والسلطة ونظم الحكم والعلمانية والديمقراطية والليبرالية والعدالة والحرية والتنمية… إلخ، وهو من الكتب المترابطة التي لا يمكن إيجازها أبداً.


الأسطورة

الأسطورة حكاية. غير أنه “ليست الحكايات كلها أساطير، لكن الأساطير كلها حكايات. الأساطير هي حكايات بداية أو خلق تجيب عن سؤال ‘لماذا؟’ ” (ص 11). والأسطورة، بهذا المعنى، تحكي منشأ الكون وغايته، والأسباب الكامنة خلف ظواهر الكون كالبراكين والفيضانات والعواصف وتقلُّب الفصول. ثم إن الأسطورة، بحسب عزمي بشارة، “ليست علماً بدائياً، بل هي منتج ثقافي يعبّر بالرموز عن التصورات والقيم” (ص 65)، وهي “مكوِّن حضاري وأداة تعبير وكشف لعمق النفس البشرية، ولغة رموز تكثّف الكونيّ وتحاول أن تسبغ عليه معنى كلياً” (ص 66). وفوق ذلك، فالأسطورة تمثل “التعبير المعرفي الأول عن تجربة المقدس” (58)، وهي مكوِّن من مكونات الدين (ص 98). صحيح أن الدين، كما يرى عزمي بشارة، يتضمن حكايات أسطورية ورؤى ميثولوجية للكون، لكنه ليس مجرد أسطورة فحسب؛ فظاهرة الدين تتضمن عابداً وعبادة ومعبوداً في مكان مقدس وزمان مقدس، كما تشمل وسائل للتقرب من المقدس ومؤسسة دينية ورجال دين ونصاً مقدساً (ص 100).

بدأ علم الأساطير (الميثولوجيا) في عصر التنوير الذي رأى في الأسطورة مرحلة الطفولة البشرية التي لم تكن قادرة في ذلك الوقت على التجريد. وفي هذا السياق كان إدوارد تايلور يقول إن منشأ الأسطورة هو محاولة لإسقاط الحياة الإنسانية على الطبيعة لتفسير ظواهرها. والدين، بحسب تايلور، هو نتاج الفكر، وفكرة الله نفسها ناجمة عن جهد عقلاني ومقدرة تجريدية (ص 82). أمّا عزمي بشارة فيقول: “ليس السحر والأسطورة مرحلتين في تاريخ البشرية يستبدلهما الدين، ويحلّ في مكانهما كما رأى [جيمس] فريزر، وليس الدين مرحلة في تطوّر البشرية تستبدله الفلسفة ثم يحلّ محلّهما العلم التجريبي، كما رأى [أوغست] كونت مثلاً، بل هما أبعاد قائمة في ذات الواقع الإنساني. وفي الثقافات المختلفة يكون أحدها أكثر بروزاً وقوة وهيمنة”، لكن “الأبعاد الأُخرى لا تختفي، بل تنزوي تعبيراتها القديمة في ثقافات فرعية” (ص 116).

سأضيف، إذا أسعفتني معارفي، أن كلمة “الأسطورة” ذات أصل آرامي (سرياني) من فعل “سَطَر”، أي كَتَبَ، ومنها كلمة “سطّر” بالعربية. أمّا في الإغريقية فهي Istoria، وتعني “أخباراً تاريخية”، ومنها جاء مصطلح History. وقد اتجهت العلوم الإنسانية الحديثة إلى دراسة الأساطير لأنها أغنى من التاريخ في الرمز والإيحاء، وهي أرحب أفقاً وأكثر تحرراً من قيود الزمن، مع أنها من نتائج الخيال، لكنها لا تخلو من منطق ومن فلسفة أولية. وهكذا ظهر ميدان جديد من ميادين المعرفة هو “الميثولوجيا”. إن الثورة العلمية الحديثة كادت، في إحدى مراحلها أن تقضي على الأسطورة حين حولتها إلى مجرد حكاية مسلية. لكن القرن التاسع عشر جلب معه ثورة فنية وجمالية أعادت إلى الأسطورة مكانتها الرفيعة كشكل من أشكال التعبير الفني والأدبي. فالحركة الرومانسية، على سبيل المثال، رأت في الأسطورة أصلاً للفن والدين والتاريخ، وكانت هذه الرؤية في منزلة الردّ على جفاف العلم وعلى العقل البارد الذي سيطر على أوروبا طوال ثلاثة قرون.

الآن، هل عرف العرب الأسطورة؟ الغريب أننا لا نعثر في المصادر التاريخية العربية على نماذج أسطورية كاملة. وربما يمكننا الافتراض أن العرب عرفوا الأساطير، وأن بعضها كان شائعاً بين الناس، لكن هذه الأساطير حُرِّفت أو مُسحت أو اندثرت مع الإسلام؛ فالإسلام لم يُفسح في المجال للأسطورة كي تعيش وتزدهر. أمّا ما بقي في التراث العربي في هذا الميدان فهو حكايات أقرب إلى الملحمة أو الخرافة. والفارق بين الملحمة والأسطورة هو أن الملحمة حكاية طويلة تدور أحداثها على الأبطال من البشر، بينما تدور أحداث الأسطورة على الآلهة والبشر معاً، بينما الخرافة هي حكاية شعبية ملأى بالخوارق، وأبطالها من البشر أو من الجن أو من الحيوانات.

يقول عزمي بشارة: “تنتقل الأساطير بين الشعوب وتُنسخ، ويجري تبادلها بتغيير أسماء الأماكن والشخوص” (ص 70). ولمزيد من الأمثلة[4]، سأعقد مقارنة أولى وعامة بين قصة الزير سالم (أبو ليلى المهلهل) وقصة “أوريست بن أغاممنون”، و”هاملت”. فالهجرس (لاحظ التوافق اللفظي مع حورس) هو “المنتقم لأبيه” الذي يقتل خاله جساس بن مُرّه قاتل والده كليب بن ربيعة. وحورس نفسه في أسطورة “أوزيريس” هو المنتقم لأبيه من عمه “ست”. و”هاملت” هو المنتقم لأبيه من عمه “كلاوديوس”. و”أوريست” هو المنتقم لأبيه من أمه كليتمنسترا وعشيقها إيغوستوس[5]. وأبعد من ذلك، فإن حكاية “سندريلا” هي نفسها قصة “ست الحسن” العربية. وهذا التماثل الحكائي يشجعنا على القول إن العرب عرفوا الأسطورة التي اندثرت مع الإسلام، ولم يبقَ منها إلاّ أخبار متفرقة في المصادر التاريخية المتاحة نجت من الفقهاء الذين اعتبروا الأساطير نصوصاً مخالفة للعقيدة.


الألوهة وتجربة المقدس

يعتقد عزمي بشارة أن الشعور بالمقدس هو سمة من سمات الوعي البشري، وهو مكوِّن رئيسي من مكونات الدين الإنساني. لكن الشعور بالمقدس ليس هو الدين؛ لا يُختزل في تجربة الانفعال بالمقدس. إنه ظاهرة اجتماعية وليس ملكة روحية في الإنسان الفرد (ص 20). ويضيف الكاتب: “إن الانفعال بتجربة المقدّس والتأثّر بها [هو] أساس العاطفة الدينية. لكن هذه العاطفة لا تتحول إلى دين بمجرد الانفعال بتلك التجربة، بل حين تؤمن النفس بالمقدس وبوجوده الحي والعاقل في الغيب، وبأن من الواجب عبادته” (ص 23). والتجربة الدينية تستعين بأدوات مثل الموسيقى والتراتيل والتلاوة والرقص، وهو ما يؤكد أن تجربة المقدس ليست دينية حصراً، بل قد تكون جمالية انفعالية. غير أن الشعور الديني هو، علاوة على ذلك، رهبة أو خوف يختلط بالإجلال والاحترام، الأمر الذي يجعلنا نقول إن الشعور الديني موجود في الإنسان قبل الدين. والدين، ولا سيما الديانات التوحيدية، فَصَل الله عن العالم، وهذه الفجوة ملأتها المسيحية بالإله المتجسد يسوع المسيح، وملأها الإسلام بالنص الإلهي، أي القرآن. والله المنفصل عن العالم يكشف نفسه إمّا بالتجلي وإمّا بالوحي، وإن “ما يسمّيه النبي وحياً يسمّيه الشاعر إلهاماً ويسمّيه الفيلسوف حدساً، وكلها مظاهر للتفاعل الكلي مع العالم” (ص 67، هامش 42). وفي التدين الشعبي، وكي يعبد الناس الله، “يجب أن يُظهر قوته، أكان ذلك في تحقيق خير لهم، أو في إخافتهم. ووظيفة النبي ثم رجل الدين أن يُقنع الناس بهذه القوة، وأن يذكّرهم بها حين يميلون إلى نسيانها في زمن الرخاء، أو الكفر بها حين تحلّ بهم مصيبة” (ص 105). وفي موازاة هذه الصرامة توفر الأعياد والمواسم والموالد والكرنفالات مهرباً موسمياً من النظام إلى الفوضى، وإتاحة ما ليس متاحاً في الحياة العادية. ويقدم لنا “موسم النبي روبين” و”أربعاء أيوب” على الشاطىء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط مثالاً قوياً لذلك. فهذا الموسم هو طقس من طقوس الخصب (زفّة النبي روبين) تجري وقائعه عند التقاء مياه نهر روبين بمياه البحر جنوبي مدينة يافا. وهذا الموسم، مع أنه ديني في شكله، إلاّ إنه مناسبة للتخفف من انضباط الحياة اليومية المحافظة، وهو يشبه الموالد المصرية كمولد السيد البدوي الذي تظهر فيه أنواع شتى من السلوكيات المضادة للقيم الدينية بمباركة شيوخ الدين. أمّا “أربعاء أيوب” فهو الرديف الإسلامي لعيد الفصح المسيحي، ويقترن بطقوس غسل العيون بماء البحر (العلاج من الرمد الربيعي)، والتفتيش عن عريس للفتاة العانس، أي التي بلغت العشرين ولم تتزوج، ويقترن أيضاً بطقوس الخصوبة لدى العاقرات، فترتمي النسوة على أمواج البحر سبع مرات ويرددن “لقِّح لقِّح يا أيوب”.

إن السباحة أمام جمهرة من الناس هو، في بعض جوانبه، انعتاق للجسد من الملابس، الأمر الذي يؤدي إلى تحول جذري في مفهوم الحياء من غير أي شعور بالذنب الذي ينمّيه الزجر الديني في الأحوال العادية. وقد تمكّنت التيارات الإسلامية في غزة من القضاء على هذا الطقس الاحتفالي القديم بذريعة أنه طقس وثني، وإخلال بالحياء عند النساء، وملامسة غير مقبولة لجسد المرأة بمياه البحر، والترنم بأغنيات تخدش الآداب العامة، والرقص بطريقة ماجنة! ويكاد احتفال “أربعاء أيوب” يختفي تماماً من شواطىء بيروت. وفي هذا الميدان رأى عزمي بشارة أن “تجربة المقدس، أكانت انفعالية أم تأملية، مسحورة أم راهبة، [هي] تجربة تقع في وعي الإنسان في تقاطع العقل والحس [….]، وهي، في بعدها الفردي، تجربة عاطفية وجدانية مكوِّنة للإنسان. وأساس الانفعال بالمقدس هو الملكة نفسها التي تجعل الإنسان ينفعل بالجمال، أو بالسامي والنبيل” (ص 19 ـ 20). ولهذا لا يستغرب المؤلف أن يجد “في ممارسات كثير من الديانات وطقوسها فنون الرسم والموسيقى والتمثيل (…) لأنها جميعاً تعبّر عن العلاقة الإنسانية مع السحر الكامن في الأشياء” (ص 25). وهكذا نشأ الرسم والنحت في البداية لمحاكاة عالم الأرواح وتقديسه من خلال التخيل ثم الرسم، أي لتحويل غير المرئي إلى مرئي.

يقول كسينوفانس: “لو كان للخيل دين لرسمت آلهة لها حوافر.” وعلى هذا المنوال رأى عزمي بشارة أن البعض فهم ما يسمى “عبادة الأصنام” فهماً غير صحيح، فالأقدمون “عبدوا الأصنام بقدر ما يعبد الناس في عصرنا نصب الجندي المجهول” (ص 29)، أو نصب بطل قومي كبير، ومثّلوا الآلهة فيها كي تكون حاضرة، لكنهم عبدوا ما تمثّل، ولم يعبدوها هي بالذات.


ما هو الدين؟

يرفض عزمي بشارة وصف الدين بأنه “وعي زائف”، ويعتقد أن هذا الوصف الذي راج كثيراً لدى الماركسيين العرب ولدى أصحاب الفهم العلموي السائد، يحجب رؤية الظاهرة الدينية في غناها وأثرها (ص 66). فالدين، بحسب دوركهايم “يمنح الناس أجوبة عن حاجاتهم إلى المثالية، أو يهدّىء من نفوسهم القلقة المتطلعة إلى اللانهائي” (ص 248 ـ 249). وأبعد من ذلك، فإن الدين عنصر اجتماعي له شأن في التحولات التي تؤدي إلى الدمج الاجتماعي (Integrative)، وإلى بلورة الجماعات الدينية وتماسكها. وقد وُجد الدين، بحسب المؤلف، منذ أزمنة سحيقة. وبعد نهاية كل مرحلة كان ينجو من النهاية، ويجتاز عصوراً جديدة، ويولد من جديد في شكل ديانات جديدة، فيتحول ويتبدل ويتكيف مع المراحل التاريخية المتعددة. فهو، والحال هذه، ذو وظيفة عامة تتعلق بالوجود الإنساني، وهو من مكونات الإنسانية.

إن اللايقين والعجز الإنساني وندرة الموارد تدفع الإنسان إلى التفكير في غائية العيش وفي معنى الموت وفي جوهر المعاناة الإنسانية. والدين يمنح الفرد، والجماعة أيضاً، عزاء في مواجهة اليأس والإحباط والعجز. ثم إن الدين ليس مؤثراً في المجتمعات والجماعات باعتباره نظرية فيزيائية أو نظرية فلسفية، بل لأنه مرجعية وسلطة إيمانية ومنظومة من التعويضات الروحية والشعائر (ص 300). ولا يميل عزمي بشارة إلى كلام ماركس أن الإنسان هو الذي يصنع الدين وليس الدين هو ما يصنع الإنسان، ولا إلى أقوال توماس هوبس عن أن معظم أسس الدين، إن لم يكن كلها، قائم على حجج مغلوطة ومغالطات منطقية مثل الاعتماد على الأرواح، والجهل بأسباب الظواهر، وعبارة ما يخشاه الإنسان، والخلط بين المصادفة والنبوة (ص 281)، بل يعتقد، على غرار إرنست بلوخ، أن الله هو المثال الإنساني الذي لم يتحقق؛ وبدلاً من أن يؤدي عدم التحقيق هذا إلى الاغتراب والاستلاب بحسب ماركس، فإنه يؤدي، بحسب بلوخ، إلى الأمل. والأمل هو جوهر الدين، والدين هو شكل آخر للأمل كما يقول ألكسيس دو توكفيل: “من بين جميع المخلوقات جميعاً يعرض الإنسان وحده موقف ازدراء من الوجود، وفي الوقت ذاته يعبّر عن رغبة غير محدودة في أن يوجد. إنه يحتقر الحياة، لكنه يخشى الفناء. هذه المشاعر المختلفة تدفع روحه بإصرار إلى تأمل حالة مستقبلية، والدين يوجّهه في تأملاته نحو ذلك الاتجاه. الدين هو ببساطة شكل آخر للأمل (…)، وهو، [بهذا المعنى،] يستمد قوته من الطبيعة الإنسانية ذاتها” (ص 357).

ليس بعيداً عن هذه الخلاصة ما قاله كارل ماركس نفسه عن الدين في إحدى أهم التماعاته التأملية وأشهرها التي وردت في كتابه “نقد فلسفة الحق عند هيغل”، فهو يقول: “الدين هو النظرية العامة لهذا العالم؛ خلاصة الموسوعية، ومنطقه في صيغته الشعبية… مناط شرفه الروحي وحماسته وجزاؤه الأخلاقي وتكملته المهيبة وأساس عزائه وتبريره الشامل. إنه التحقق الخيالي لكينونة الإنسان ما دامت كينونته لم تتحقق في الواقع. إن الشقاء الديني تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو، من جهة أُخرى، احتجاج عليه. الدين زفرة الإنسان المقموع؛ قلب عالم لا قلب له، وهو روح لشروط اجتماعية لا روح فيها. إنه أفيون الشعب.” لكن عزمي يرفض “التعامل مع الدين باعتباره أداة سيطرة أيديولوجية على الناس البسطاء بواسطة الخرافات، بمعنى أنه خداع وتضليل منظّمان يقوم بهما رجال الدين للسيطرة على أذهان الناس لمصلحتهم، أو لمصلحة طبقات دينية أُخرى، [فهذا] موقف تبنّاه التنوير الأوروبي بصيغته الراديكالية” (ص 280). وفي هذا الميدان لا بد من الإشارة إلى أن غاية التنوير في الأساس، كانت تحرير الإنسان حقاً من سطوة رجال الدين كما تجلت في العصور الوسطى، وتحرير العقل من كابوس اللاهوت الذي وقف بقوة ضد مكتشفات العلم. وانطلاقاً من روح التنوير صارت المعرفة تستند إلى التجربة العلمية، وتحررت من غيبيات رجال الدين وخرافاتهم. أمّا العلمانية فكانت، منذ ظهورها الأول، ملتصقة بالتنوير، وكانت تعني، في بعض وجوهها، استقلال العلم عن الميتافيزيقا، واستقلال الأخلاق عن الدين، وكانت، في جوهرها، مسألة سياسية لا مسألة دينية، لأنها وجَّهت جهدها نحو الدولة وبناء الدولة واستقلالية الدولة. ومع ذلك، لم تؤدِّ العلمانية في فرنسا، على سبيل المثال، إلى اندثار الكنيسة، ولم تقضِ العلمانية في الولايات المتحدة الأميركية على الكنائس، فالكنيسة (والدين معها) صارت، في بعض الفترات، مثل المهدئات النفسية التي تساعد الفرد على الاندماج الاجتماعي، وعلى احتمال الاضطرابات والتوترات الناجمة عن التطور التكنولوجي الهائل والمتسارع.

في جانب آخر يرى عزمي بشارة أن محاولات بعض الكتّاب العرب دحض الدين واعتقادهم أن هذه المحاولات هي جهد تنويري تقدمي، لم تساهم في فهم الظاهرة الدينية كظاهرة اجتماعية، لأن دحض الدين والهجوم عليه باعتباره مجرد خرافات، يهدران خصوصية الظاهرة الدينية وقوتها وأهميتها. “فليس الدين نظرية خاطئة لتفنَّد وانتهى الأمر، إذ يتضح دائماً أن ‘الأمر’ لم ينتهِ!! فلا ينتهي أمر الدين بدحضه، وتفنيد علميّته، وإثبات خطأ تفسيراته للدنيا” (ص 299). إن ما يسهّل دحضه هو مقولات الإيمان المفسِّرة للعالم، وهذه المقولات تتأكل بالتدريج مع فتوحات العلم. لكن قوة الدين لا تكمن في هذا الميدان، بل في العقيدة نفسها، وفي الممارسات الموروثة في إطار المجتمع والعائلة، وفي مشاعر الانتماء إلى جماعة… إلخ. والدين ليس منظومة معرفية، مع أنه يقدم تفسيراً معيناً للعالم يقوم على الميثولوجيا. وعلى الرغم من ذلك لم تنتهِ وظيفة الدين بحلول العلم في محل التفسير الديني (ص 63)، والتخلص من جزء كبير من الميثولوجيا لم يُنهِ الظاهرة الدينية، بل غيَّر تمظهراتها (ص 62). وعلى سبيل المثال موضوع “اللوح المحفوظ”، فهذا الموضوع قضية إيمانية لا يُستدل عليها بالعقل (ص 210)، مع أن فكرة اللوح المحفوظ موجودة في ملحمة “إينوما إيليش”[6] حيث يحتفظ الإله مردوخ بألواح سماوية هي ألواح المصير أو القدر، وقد كتب عليها كل ما هو كائن وما سيكون، فإذا تغير حرف فيها تغيرت مجريات الدنيا (ص 209). والدين لم يختفِ لمجرد نشوء النظريات المادية في تفسير نشوء العالم لأن “تفنيد اعتقادات ومقولات دينية معرفية الطابع لا يحوِّل الدين إلى مجرد نظرية خاطئة، إنه [الدين] ببساطة ليس نظرية (…)، بل هو تجربة في التواصل مع المجال المقدس، وإيمان بعقيدة، وهو قبل هذا وذاك ممارسة اجتماعية مُمأسسة” (ص 249-250).


الدين والعلم والعقلانية والإلحاد

ليست مهمة العقل، بحسب عزمي بشارة، التدخل في تصحيح المقولات الدينية والروايات، وإنما فهم المنشأ التاريخي لها ومعناها ووظيفتها، وكلها مجالات لإعمال العقل والبحث العلمي. وهذا التفكير هو شوط جديد في مسيرة فلسفية طويلة ربما نجد بداياتها لدى عمانوئيل كانط الذي كان يقول إن إعمال العقل خارج نطاق العقل يعني التوصل إلى نتائج لا عقلانية، وأنْ لا مجال لإخضاع الإيمان أو الأفكار التي يقوم عليها الإيمان كوجود الله وخلود النفس، للعقل. فالدين، في نهاية المطاف، ممارسة اجتماعية أخلاقية، ويجب أن يخضع لمتطلبات العقل العملي (ص 260). كذلك لا يُستدل على الإيمان بالعقل العلمي التجريبي ولا بالعقل الصوري المجرد (ص 44)، لأن الإيمان بالله ليس ناجماً عن البرهان عن وجوده، بل هو معرفة، أو إيمان معرفي (Belief)، خلافاً للإيمان العرفاني، أي التصديق (Faith) (ص 190 ـ 192). والعقلانية ليست البرهان على تناقض قصة الخلق الدينية مثلاً مع العقل، أو مدى صحتها، بل التفكير في معنى هذه القصة وتأثيرها الأخلاقي ورمزيتها وقدرتها على فهم مكان الإنسان في الكون ومسؤوليته عن أعماله (ص 268). وفي هذا الحقل أرادت قصة إبراهيم[7] والتضحية بابنه أن تؤكد الفارق بين الخير العادي (أي عدم قتل الابن) وطاعة الله باعتبارها خيراً مطلقاً (ص 200). صحيح أن العلم يغيّر مجال الإيمان، تضييقاً أو توسيعاً، لكنه لا يغيّر طبيعة الإيمان باعتباره إيماناً لا يمكن البرهان عليه بالعلم. وربما يؤدي انتشار العلم إلى دحض منظومات عقائدية وأفكار شائعة، “لكن انتشار العلم لا يعني الحقّ بالتعامل مع العقيدة الإيمانية ذاتها على أنها خرافة أو نظرية خاطئة يمكن دحضها” (ص 203 ـ 204)، لأن “العلم لا يتناول المطلق (…)، ولا يبحث في الغيب. فهو لا يدرس صفات الله، أو عادات أهل الجنة، أو عذاب القبر (…)، [إلاّ كمجال] من مجالات دراسة الأنثروبولوجيا (…). الغيب غيب، أمّا الإيمان بالغيب فليس غيباً، بل هو فعل إنساني من حق العلم أن يطمح إلى مقاربته علمياً” (ص 246 ـ 247).

في أي حال، فإن العلم حين دحض الجانب البدائي في الدين لم ينتهِ الدين بحسب ما يؤكده المؤلف (ص 11). وهذا واضح تماماً لدى فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر؛ فهؤلاء أرادوا نقد الدين، وحتى تهديمه معرفياً استناداً إلى العلم. وعلى سبيل المثال، فإن قصص التوراة كلها لا تصمد أمام النقد العلمي، ولا سيما قصة داود الذي قتل دباً وأسداً لأن الأسد اختطف شاة من قطيع والده العجوز يسي. إن علماء الطبيعة يؤكدون، بصورة قطعية، أن الدب لا يعيش في المناطق التي يعيش فيها الأسد. ويروي سفر يشوع قصة سقوط مدينتَي أريحا وعامي المسوّرتين، لكن علم الآثار الإسرائيلي نفسه برهن أن في الفترة المفترضة لسقوط المدينتين، لم يكن ثمة أي مدينة في المكان، ولم يكن هناك أسوار لتُهدم. والأمر نفسه ينطبق على ميلاد المسيح في 25 كانون الأول / ديسمبر من أم عذراء، وعلى قصة صلبه. والمعروف أن 25 كانون الأول / ديسمبر هو عيد (الاعتدال الشتوي)، وهو طقس احتفالي لدى شعوب كثيرة، وهو أيضاً تاريخ ميلاد أدونيس في سورية، وميلاد ميثرا في فارس، وميلاد باخوس في اليونان، وميلاد كريشنا في الهند، وهو عيد الشمس بحسب دائرة البروج (الزودياك) حيث تظهر الشمس وقد ارتفعت درجة واحدة في الدائرة المؤلفة من اثني عشر برجاً (وللمسيح اثنا عشر تلميذاً). وقد تبنّت الكنيسة في سنة 320 ميلادية هذا التاريخ وجعلته ميلاداً للمسيح[8]. وعلى هذا النحو يمكن الكلام على قصة موسى (أو موشي وتعني المنتشل من الماء)، فهي قصة شائعة لدى الشعوب النهرية مثل العراق ومصر، كقصة سرغون الكبير أول ملوك الأكاديين الذي وُضع وهو طفل في سلة مطلية بالقار، وتُرك عند ضفة النهر، فجرفه التيار إلى مكان بعيد حيث أنقذه أحد الأشخاص. وكذلك حكاية “أوزيريس” الذي ألقاه شقيقه “ست” في النيل بعدما وضعه في صندوق محكم، ثم سارت به الأمواج إلى فينيقيا. وقصة “أوزيريس” تطابق قصة الزير سالم (لاحظ التطابق اللفظي بين “أوزيريس” و”الزير”) الذي ألقى به “سلطان” (لاحظ التطابق مع “ست”) في النهر بعدما وضعه في تابوت، وقد سارت به الأمواج إلى فينيقيا أيضاً، لكن لا إلى جبيل بحسب قصة أوزيريس، بل إلى قصر حكمون اليهودي عند شاطىء بلدة خلدة الواقعة اليوم جنوبي بيروت بحسب حكاية أبو ليلى المهلهل. وعلى هذا المنوال نُسجت حكاية حي بن يقظان لابن طفيل، وفيها أن امرأة حملت من قريب لها يدعى يقظان وولدت طفلاً. وخوفاً من شقيقها الملك وضعت الطفل في تابوت أحكمت شقوقه، وألقته في البحر فوصل إلى جزيرة واق الواق حيث يولد الإنسان فيها من دون أب ولا أم… والأمثلة لا تكاد تنتهي.

تعرضت النظرة العلموية لنقد متفاوت العمق ومتعدد الجوانب. وقد انتقد دايفيد شتراوس هذه النظرة لأنها تستبعد التاريخ من نطاقها، أي أن معجزات المسيح مثلاً لا يمكن معالجتها بالعقل أو بالمنطق العلمي كأن نتناولها كحوادث وقعت حقاً أو لم تقع، وإنما باعتبارها أساطير تعبّر عن تجربة دينية، أي أنها حقائق داخلية في نفوس المؤمنين بها، مع أنها كحقائق تاريخية مشكوك في صحتها إن لم تكن غير صحيحة تماماً. وماركس أيضاً كان يرفض النظر إلى الأفكار كما لو أنها انعكاس ميكانيكي للشروط الاجتماعية الخارجية. وهذا ما كان مادّيو القرن الثامن عشر يروّجون له، كما لو أن العلاقة بين الاثنين مثل علاقة البول بالكليتين. ومع ذلك فقد أعلن ستيفن هوكينغ في القرن الحادي والعشرين موت الفلسفة كعلم، وقال إن الفيزياء باتت مهيأة لكتابة “نظرية كل شيء” أو النظرية الشاملة القادرة على تفسير خصائص الطبيعة كلها[9].

كان الإلحاد جزءاً من العقلانية الباردة والمفرطة في علمويتها، وكان أعلام التنوير الأوروبي، في أغلبيتهم، ملحدين تماماً. وقد سيطر عصر الأنوار على أوروبا بأسرها، وغمرها بأفكاره الثاقبة والجريئة، ومع ذلك ظل الإلحاد، لعصور طويلة، ظاهرة تتململ في عالم يعيش فيه من المؤمنين عدد أكبر كثيراً من أعداد غير المؤمنين. فالإلحاد “خاطب الدين بنظام مستقل عنه (…)، فلم نسمع أن الدين قد انتهى بصفته ظاهرة مع نشوء فكرة الإلحاد. فلا الإلحاد نظرية علمية، ولا التدين إيمان بنظرية خاطئة” (ص 249)، بل هو [الدين] “ظاهرة اجتماعية سياسية روحية نفسية عظيمة الأثر” (248). بهذه الطريقة ينظر عزمي بشارة إلى طرفَي التناقض، أي إلى الإيمان والإلحاد، وهو يرى أنه “حتى لو نفى الإلحاد الدين عقلياً، فإنه لا يلغيه. فالأشياء لا تُقدَّس بالعقل، ولا تُنزع قدسيتها بالعقل أيضاً” (249)، فما إن اكتُشفت نظرية كروية الأرض حتى أخرجت من التداول نظرية الأرض المسطحة، لكن الدين لم يخرج من التداول.


السحر والدين والأخلاق

لعل أمتع فصول هذا الكتاب هو المقارنة الذكية بين السحر والعلم. وللوهلة الأولى تلوح هذه المقارنة كأنها أمر غريب؛ فلا صلة تجمع السحر إلى العلم في البداية! لكن عزمي بشارة يرى خلاف ما هو مستقر في الأذهان. فالسحر والعلم يقومان بالوظيفة نفسها (ص 107)، ولا فارق بين غاية السحر وغاية العلم، لأن السحر يتشارك مع العلم في محاولة تسخير قوى الطبيعة والسيطرة عليها. أليس العلم محاولة دائمة لاكتشاف قوانين الطبيعة والسيطرة عليها؟ هكذا يتساءل الكاتب كي يقول: “يسعى السحر نحو هدفه بواسطة شعائر تتضمن أحياناً محاكاة رمزية لما يجب أن تفعله الطبيعة”، كأن تمطر أو تهدأ أو تميت شخصاً أو جماعة. فالسحر يريد “التأثير في المصائر (…)، وكانت الكيمياء نموذجاً سحرياً كاملاً” (ص 102 ـ 103). والسحر يفترض أنه يملك القدرة على التأثير في الله، بينما الدين هو سلوك يؤدي إلى عبادة الله. والسلوك السحري يبغي استخدام وسائل لإلزام الله فعل هذا الأمر أو ذاك. ووسائل السحر، خلافاً للدين، ليست الصلاة مثلاً، بل هي معادلات سحرية بدائية. ولا يختلف السحر، في بعض وجوهه، عن التدين الشعبي، لأن الطقوس والشعائر والقرابين والرقص إنما هي وسائل للتأثير في الأرواح. ويمارس المتدين طقس التضرع لاعتقاده أن التضرع سيؤثر في الله، أو يعقد “صفقة” يقدم فيها المتدين صلواته ونذوره للأولياء والقديسين لقاء أن يحقق له هؤلاء ما يريد. والدين يتضمن الخضوع للمقدس والاستسلام له وعبادته، أمّا السحر فيتضمن إخضاع المقدس (ص 113). والواضح أن طقوس طرد الأرواح الشريرة مثلاً موجودة في جميع الديانات، وهذه الطقوس ذات طابع سحري خالص، ومع ذلك فإن السحر غير الدين، لكنه موجود في الدين في الوقت نفسه (ص 112). وهذا الوجود يتخذ أشكالاً متفاوتة، فثمة استخدام سحري للنص الديني كالرقية، وكتابة آيات معينة كأحراز حامية، والتبرك بذخائر القديسين، وقراءة آيات محددة لإبعاد شرٍ ما كآية الكرسي والمعوذتين. وفي هذا السياق يقول أرنست بلوخ: “التقنية هي السحر الحقيقي، وفرنسيس بيكون في كتابه ‘أطلانطس الجديدة’ هو فيلسوف التقنية.” أمّا عزمي بشارة فيقول: “نزعت الحداثة السحر عن العالم لكنها لم تنزعه من روح الإنسان” (ص 76).

في تاريخ المسيحية الأوروبية الحديثة نظر بعض البروتستانت من المدرسة الربوبية إلى المسيح كمعلم أخلاقي، لا كإله، وكانوا يرون أن الأخلاق، وليس الإيمان، هي جوهر الدين، وكانوا يعتقدون أن العقلانيين يعبدون الله على أكمل وجه حين يعاملون إخوانهم في الإنسانية بالعدل. لكن عزمي بشارة يرى أن الأخلاق ليست جوهر الدين، بل الإيمان والعلاقة الفردية والجماعية بالمقدس، أي ما يسمى العبادة (ص 123). ويتساءل الكاتب: “إذا كان الدين أخلاقاً فقط فإن هذا يعني أيضاً أن في الإمكان الاستغناء عنه” (ص 119)، والتاريخ عرف منذ حمورابي شرائع عبّرت عن منظومات أخلاقية من دون أن تكون هذه الشرائع نصاً دينياً، ولم يتطابق الدين مع الأخلاق لا في الديانات القديمة ولا في الديانات التوحيدية، “ويمكن أن يتخيل أي إنسان مدى عدم الراحة التي يثيرها فجور الآلهة اليونانية، لا عند المتدين المسيحي أو المسلم فحسب، بل في الفكر اليوناني نفسه أيضاً (…). لكن هناك كثير من عدم الراحة لنفس المؤمن في قصص ‘الكتاب المقدس’ عن ملوك بني إسرائيل وأنبيائهم، وسهولة عقوبة القتل، والإبادة من دون سبب، وعاداتهم الجنسية، وسلوكهم الحياتي” (ص 118-119)، حتى إن كالفن رفض الاعتقاد بأن الله في سفر أيوب هو الله فعلاً، بل هو الشيطان الذي أنزل المحن بأيوب مدّعياً أنه الله. وأصل الحكاية أن الشيطان خدع الله وحرضه على أيوب “الذي صار صبره صبراً [مراً] على ‘مزاجيات’ إلهه وعقوباته العشوائية” (ص 129).

يقول عزمي بشارة إن المانوية وحدها طابقت بين الدين والأخلاق مطابقة تامة؛ فقد فصلت الله، وهو الخير المطلق غير القادر على صنع الشر وغير قادر في الوقت نفسه على منعه، عن العالم الذي بات في حاجة إلى إله ثانٍ مساوٍ للأول في القوة ومضاد له في الاتجاه، كي تكتمل تفسيرات الشر من دون أن يتلوث بها إله الخير. وهناك بعض الفلاسفة الذين يعتقدون أن الشر ليس نقيضاً لوجود الله، لأن وجود الشر في الطبيعة البشرية دافع إلى التفتيش عمّا يخلصنا من هذا الشر.

منذ نحو أربعين عاماً كاد معين الإبداع والتجدد ينضب في الفكر العربي، وتحوّل على أيدي الجماعات الدينية الجديدة إلى “فكر” راكد وراقد وكالح. وقليلة هي الكتب التي ظهرت في هذه الحقبة وكان لها شأن في إعادة النضارة إلى الفكر النقدي الجديد الذي راح يحوم في السماوات العربية غداة هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، والذي ذوى بعد حرب السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973. أمّا كتاب عزمي بشارة، “الدين والعلمانية في سياق تاريخي”، فيستعيد ذلك الألق الثوري الذي غمر كياننا في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، وهو، بأفكاره الغنية والمتشابكة وبسجالاته المكثفة والرفيعة مع الأفكار، يثير أسئلة جوهرية كثيرة في الوقت الذي يساهم في الوصول إلى أجوبة وجودية راهنة. إنه مساهمة عميقة من مفكر علماني في قضية شائكة ومعقدة أرادها أن تتصدى لمسألة الدين والتدين والمقدس.

——————————————————————————–

[1] عزمي بشارة. “الدين والعلمانية في سياق تاريخي”، الجزء الأول (الدوحة؛ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، 2013. 496 صفحة.



[2] لم نعرف هذا الكتاب إلاّ على يد فريدريك أنجلز في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” (1884) الذي ترجمته دار التقدم في موسكو.


[3] ظهر الجزء الأول من كتاب جيمس فريزر “الغصن الذهبي” بالعربية في سنة 1971 عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ـ القاهرة.


[4] انظر: إيمانويل فلايكوفسكي، “أوديث وأخناتون”، ترجمة فاروق فريد (القاهرة: دار الكتاب العربي، د. ت.).


[5] انظر: لويس عوض، “أسطورة أوريست والملاحم العربية” (القاهرة: دار الكتاب العربي، 1968).


[6] هي الملحمة السومرية الأقدم بين ملاحم الشعوب، وتعني “بينما في الأعالي”.


[7] التضحية أو القربان البشري طريقة للخلاص من الإثم. وفيما بعد صار تقديم جزء من الجسد البشري كافياً للقربان بدلاً من الجسد كله، وكان بعض الناس يخصي نفسه أو يقدم القلفة بدلاً من الخصي، وهذا هو منشأ الختان. وفي اليونان حيث لا خطيئة في المعتقدات الدينية فإن التضحية لا تهدف إلى الخلاص من الإثم، وإنما هي خوف من العقاب. وفي مسرحية “أغاممنون” لإسخيلوس يقدم أغاممنون ابنته أفيغنيا قرباناً للآلهة أرتميس، لكن أرتميس تشفق عليها وترسل غزالة إلى المذبح بدلاً منها، وهي قصة تطابق قصة ابراهيم وابنه إسحق والخروف.


[8] المولودون من أم عذراء: أفلاطون والإسكندر وفيثاغورس وكريشنا وميثرا، والمصلوبون الذين ولدوا من أم عذراء: كريشنا وميثرا وبوذا وكوغز لاكوت في المكسيك، وغيرهم كثيرون.


[9] نشر ستيفن هوكينغ مقالة في جريدة “التايمز” اللندنية (2/9/2010) قال فيها إن الفيزياء الحديثة لا تترك مجالاً للإيمان بأي خالق للكون. والمقالة هي مقتطفات من كتاب The Ground Design الذي صدر في 9/9/2010. وهذه النتيجة تخالف ما جاء في كتابه A Brief History of Time الذي أصدره في سنة 1988، والذي يقول فيه إن فكرة الإله الخالق لا تتعارض مع الفهم العلمي للكون.




*هذه المراجعة منشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية ، العدد 98 ، ربيع .2014

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *