أحمد عبد المعطي حجازي
نحن لانبالغ إذا قلنا إن كثيرا من المصريين أو غالبيتهم يستمدون ثقافتهم من الدين أو يعتبرونه مصدرهم الأول ومرجعهم الأخير، لايخطون خطوة ولايفتتحون عملا إلا بعد أن يسألوا أو غيرهم عن مكانه فى سلم القيم الدينية، وفى هذا جانب إيجابى لاشك فيه، فالدين مقوم أساسى من مقومات الشخصية المصرية، وهو ضمير أخلاقى حي.
وهو وحده الذى يحدثنا عما وراء الطبيعة وما بعد الحياة.
لكننا نحتاج كذلك لأن نعرف الطبيعة ونعرف الحياة، نحتاج لأن نعرف أنفسنا ونعرف غيرنا، ونحن المصريين لسنا دينا واحدا، لكننا أمة واحدة تحتاج لأن تسوس نفسها، وتعرف ماضيها وحاضرها وتفكر فى مستقبلها وتضمن السعادة لأبنائها فى هذه الدنيا، وهذا ما قصرنا فيه وأخطأنا الطريق اليه حين جعلنا الدين سياسة، وجعلناه قانونا وعلما وفنا، وجعلناه تاريخا وجغرافيا.
الأحزاب الدينية عندنا حلت محل الأحزاب الوطنية، وتطبيق الشريعة أى الجلد والرجم وبقية العقوبات البدنية هو الهدف الأول فى برامجها الانتخابية، والمسيحيون المصريون فى نظر هذه الأحزاب أنصاف مواطنين.
والنساء أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا عورات وناقصات عقل ودين والحضارة المصرية القديمة أوثان وأصنام، والأرض ليست كروية، والجامعات المصرية تعقد مؤتمرات تشتم فيها طه حسين وتتهمه بالعمالة.
وتعقد مؤتمرات تقول فيها ان كل ماوصل إليه العلماء الغربيون وكل ما سوف يصلون إليه فى الطبيعة والكيمياء والفلك والطب موجود فى كتبنا الدينية.
هذا الواقع المتخلف الذى نعيشه له أسبابه الواضحة، فالمصريون نصفهم أميون، وقد عشنا ألفى عام مستعبدين والنظم التى حكمتنا فى هذا العصر صادرت حرياتنا وجرت علينا الهزائم وأفقدتنا ثقتنا فى أنفسنا وفى قدرتنا على الخروج من تخلفنا واللحاق بالآخرين الذين أصبحوا فى نظرنا أعداء ألداء أو أجناسا أخرى غريبة لها عالمها ولنا عالمنا، لهم الدنيا ولنا الدين الذى صار فى بلادنا تجارة رابحة.
نحن لانسأل فيما نقول ونفعل عن الصواب والخطأ، أو عن الحق والواجب أو عن النفع والضرر، أو عن الربح والخسارة، أو عما يخلصنا من الجهل والفقر والضعف والطغيان ويفتح لنا الطريق الى العلم والغنى والقوة والحرية، بل نسأل فقط عن الحلال والحرام والمحظور والمباح، نعطل بهذه الأسئلة عقولنا، ونتخلى عن حريتنا وإرادتنا للأدعياء والمرتزقة الذين يتحدثون باسم الدين، وهكذا نجد أنفسنا فى مواجهة دائمة مع العصر لأنه يطرح علينا أسئلة لايستطيع أن يجيب عليها إلا الذين تزودوا بعلومه وشاركوا فى بناء حضارته، ونحن وإن كنا نولد فى هذا العصر ونموت وندفن فيه فنحن لانأخذ منه ولانعطيه، ثم لانجد فى ذلك مايعيبنا، بل نعده امتيازا خصنا الله به إذ سخر لنا الشعوب الأخرى تنظر فى ملكوت السموات والأرض وتبحث فى المعامل وتجرب النتائج وتستخرج القوانين وتحولها الى فنون ومهارات ومصانع وآلات وسلع وبضائع نحملها الى أسواقنا وماعلينا نحن الا أن نشترى ونتمتع بما تعب فى صنعه الكفار المسخرون لخدمتنا، كما شرح لنا شيخ ظريف جمع فى أحاديثه الرائجة بين الوعظ والكوميديا!
ومنا من يستخرج من فقه الماضى اجابات لأسئلة هذا العصر يخلط فيها بين الدين والفقه ولايميز بين العقائد الثابتة التى تظل بالنسبة لمعتنقيها صحيحة صالحة لكل زمان ومكان وبين التفسيرات المختلفة والاجتهادات التى تتطور وتتغير من عصر الى آخر، وبهذا الخلط تصبح الديمقراطية حراما، لأن الحكم لله وحده، فليس يصح معه الحديث عن حكم الشعب، اللهم الا اذا تولى الحاكم السلطة نيابة عن الله، أى اذا خرجنا من النظم الديمقراطية ومن حضارة العصر كلها وعدنا من جديد لنظم العصور الوسطى كما حدث حين سمحنا للإخوان الإرهابيين وحلفائهم بالوصول الى السلطة، وبهذا الخلط يصبح كل نشاطنا فى هذا العصر حراما لأنه لم يكن له وجود فى الزمن الذى عاش فيه فقهاؤنا القدامى وكان مسموحا فيه بالاجتهاد، وقد انهى هذا الزمن وأغلق باب الاجتهاد ولم يعد أمامنا إلا هذا الفقه القديم نرجع اليه حين ننشئ مصرفا، وحين نضع دستورا، وحين نعدل هذا الدستور، وحين نوقع ميثاقا دوليا، وحين نقرأ رواية، وحين نفكر فى عرض فيلم يصور الطوفان أو يتحدث عن يوسف وإخوته وأبيه.
ولاشك فى أننا نحتاج لتراثنا القديم نرجع اليه وننتفع به ونستفيد، لكن دون أن نستسلم له أو نمتثل لكل ماجاء فيه، وإنما نقرؤه ونحن مزودون بما نعرفه من حقائق العصر ومانؤمن به من مبادئه.
مثلا، القدماء أو كثير منهم كانوا يعتبرون الشعر نوعا من الكذب، لأن الشاعر يزعم أن حبيبته غزالة أو بقرة، رغم أنه كان يعرف كما نعرف أنها امرأة، وكان يزعم ان فلانا بحر وأن الليل موج.. الى آخره، لكننا نعرف الآن أن كذب الشعراء أجل من صدق غيرهم وأصدق من الواقع الذى نراه، لأنهم لم يكونوا فيما قالوه يقرون غير مايبدو لنا، وإنما كانوا يشبهون ويستعيرون ويضيفون مايرونه باحساسهم وخيالهم لما نراه بعيوننا.
وما نقوله عن الشعر الذى لم ينفصل تماما عن تراثه القديم نقوله بالأحرى عن العلم الذى قفز قفزات صاروخية انقطع بها حديثه عن قديمه، فنحن الآن لانتداوى بطب ابن سينا وداود الانطاكي، وانما نتداوى بطب مجدى يعقوب ومحمد غنيم، والأطباء الآن يزرعون الأعضاء، ويطيلون الأعمار، ويصنعون النطفة فى الأنبوبة فتصبح الأنبوبة رحما تخرج منه النطفة طفلا سويا !
كيف نستطيع فى هذا العصر أن نتداوى بأبوال الإبل؟ وكيف نصدق البخارى الذى أورد هذا الحديث المنسوب للرسول فيما سمى صحيح البخاري؟ وكيف نصدق أبا هريرة فيما رواه ونسبه للرسول عن الذباب الذى يجب أن نغمسه فى آنيتنا إن سقط فيها حتى نحصل على ما فى أحد جناحيه من دواء بعد أن اختلط بطعامنا ما فى الجناح الآخر من داء؟ إذا كان أبوهريرة قد روى هذا الحديث وابن ماجة أخرجه والبخارى أثبته فى صحيحه هل نصدقهم ونتداوى بالذباب وأبوال الإبل؟ أم نراجعهم ونحتكم للطب الحديث ولعقولنا ونخلص تراثنا من هذا الذى يجب أن يتخلص منه؟ ومن هم المطالبون قبل غيرهم بالقيام بهذه المراجعة والمؤهلون لها؟ أليسوا هم علماء الأزهر الشريف وشيوخه الأفاضل؟!
– الأهرام