*مريم حيدري
عند بوابة القاعة التي تقع وسط بغداد يقول الشاعر الذي رافقني من إيران إننا واقفون الآن في أخطر منطقة في العالم، يخشى ذلك وفي داخلي أشعر أن لا شيء يمنعني ألا أحب هذه المدينة، ولا أشعر بالقرب الشديد منها رغم كل المخاوف التي تحيط بها.
بمجرد دخولنا إلى بغداد راودني الشوق للأغاني العراقية القديمة التي طالما أحببتها والرغبة في أن أسمعها في موطنها، غير أني فوجئت بأغان صاخبة ونحن نركب السيارة التي تقودنا من المطار إلى الفندق، وتكررت الخيبة عند ركوبي سيارات أخرى في المدينة؛ هي أنانيتي أن أتوقع أن يسمع سائقو التكسيات ما أحب، عرفت ذلك، ووفق قراري بأن أستمتع برحلتي الأولى إلى بغداد، دخلت الغرفة كي أستعين بالـ”يوتيوب” وأستمع إلى أجمل من أحب من المطربين العراقيين: “فاضل عواد”، و”قحطان العطار”، و”سعدون جابر”، وآخرين، هذا كي تكون بدايتي في بغداد كما كنت أتخيل.
أتحاشى الآن ذكر الألم الصارخ الصامت على سحنات العابرين من نساء ورجال، وربما دون أن يعوا ذلك، وتأسفي من أجل أروع الحناجر العربية التي كان يمكن أن تكون حناجر مطربين غير أنها تتحدث الآن عن أوجاع أصبحت أمورا يومية، والمشاهد المؤلمة لحضور البضائع الصينية، والتركية، والإيرانية الرخيصة في شوارع ما زالت تحاول أن تحتفظ بجمالها الساحر القديم، في مدينة كان يمكن أن تنتج أجمل وأرقى البضائع، وسير الحياة على خط الموت في كل لحظة، ومحاولات أهلها الرائعين أن يتجاهلوا ذلك ويواصلوا شغفهم بالضحك والفكاهة في الحديث، أتحاشى تفاصيل كل هذا كي لا يضيع عني أن أذكر يوم الجمعة في بغداد، وشارع “المتنبي”، وركوب القارب وتلمّس “دجلة” بيدي، ومرافقة أجمل الأصدقاء الذين صنعوا لي من رحلة بغداد ذكرى ذات إيقاع عراقي جميل في قلبي وذاكرتي.
ويتواصل يوم الجمعة كي نتغدّى أطيب ما أحب من الأكل، السمك المشوي على الطريقة العراقية، ليتصل كل ذلك بليلة رائعة يجتمع فيها من أحب من الأصدقاء الشعراء كي نسهر ويحققوا لي رغباتي السمعية والشعورية والذوقية ويغنوا أغاني حفرت في ذاكرتي منذ سنين، ويعيدوا لي لهجة الجنوب المفعمة بالحميمية كي أعود وأقول لأمي: “كانوا يتحدثون مثلك” وتفرح لتقول “إنهم أهلي”. وهي الليلة ذاتها التي تحدثوا لي فيها عن شعراء وكتاب ومطربين محببين من العراق وذكريات عنهم، بطريقتهم الفاتنة في السرد كي أشعر أني أعيش تلك اللحظات معهم، كأني في فيلم كان يمكن أن يصنعه “وودي آلن” عن منتصف الليل هذا في بغداد، ولياليه التي تأبى إلا أن تكون ساحرة حتى إن حظروا التجوال فيها عند الساعة الثانية عشرة ليلا.
_______
*العرب