*ياسين رفاعية
يتحول الحب احيانا الى شيء من التصوف، بل هو التصوف بعينه، وثمة خيط رفيع جدا يفصل بينهما، فكما ان المتصوفين يذوبون بالذات الالهية، فالحب الحقيقي ذوبان بالمحبوب، واذا كان هناك مكان حقيقي وحميمي يقيم فيه المحبوب فهو القلب.
ان جوهر الحب عدم ايذاء العاشقين بعضهما بعضا، وبالذات عدم ايذاء العاشق لحبيبته، وعدم ازعاجها حتى ولو كان ذلك يتطلب ذلا في حضرة الحبيبة.
عندما تدرك الحبيبة ان هذا الرجل الذي يقف امامها محني الرأس لا يكاد يرفع عينيه نحوها متهيبها، عليها ان تمد يدها اليه وترفعه الى مساواتها، تسعده بابتسامة، بلمسة يد.
ان جوهر الحب ايضا ان يحب العاشق ما تحبه المعشوقة، وان يبذل كل جهده كي يفرحها ان لم يكن على مدار الساعة فعلى مدار اليوم والاسبوع والشهر والسنة، وفي المقابل هي ايضا يصبح واجبا عليها ان تفرح عاشقها، وان تحيطه بحنانها. ان الزهرة لا تنبت اذا لم نسقها بالماء، والنبع لا يمشي اذا لم نشق له مجرى. والحب كالزهرة وكنبع الماء بحاجة الى الحنان، والاحترام ايضا. الاحترام سند الحب وقوته، وبالاحترام يتحصن الحب من الثرثرة والاساءات العابرة.
جوهر الحب الاخلاص والصدق والتعالي على النميمة والكذب والادعاء الفارغ، وهو ما يكون بين العاشقين من مثل وقيم رفيعة، فيه يدرك المرء قيمة الحياة. لأن الحب في الاصل ابن الحياة، وحتى الحجر ليس محروما من الحياة، ان فيه حركتها لا جمودها.. الحجر هو البناء.. البيت وغرفة النوم.. المدرسة، والشارع.
الحب يجعل العاشقين في حالة توازن دائم، هو خلق ليكون كالملاك، وهو يخترق الاشباح والاطياف المتحركة الى ما لا نهاية، الحقيقة والتنبه اليه يشكلان المدخل الى التلاؤم بين قلبين، والتناغم مع كل شيء، ويدرك كل من العاشقين ذاته بالنظر الى الآخر.
غنى احد العشاق الهنود الى حبيبته على وقع الغيتار:
‘قومي يا حبيبتي من نومك العميق انت لا تعرفين ان الموت يتربص بك.
انت لا تكترثين
كم هو ثقيل الحمل الذي قررت حمله
وكم هو طويل الدرب المقرر لك
انهضي
لانه قريبا جدا ستشرق الشمس′
في الحقيقة، الحب في معدنه كالشمس في معدنها ونورها واصالتها، الحب يقود الى النور، والمعرفة والحكمة، انه بحر وامواج، ومن الاصوات الرائعة ويكرر العاشق الهندي في اغنيته:
انا لا أجرؤ ان ارفع عيني نحوك لكي ادرك صورتك المنيرة لئلا يطفىء هذا الجمال ايماني
فأكاد اعبده
انني اجلس بخشوع عند بحيرة قلبي
وأتأمل خيالك فيها
انني اعيش فيك
كالروح والقلب والدماء’
وها هو جاك بريل الفنان الفرنسي يغني لحبيبته:
‘لا تتركيني
يجب ان انسى كل شيء
ينسى ويهرب
ننسى زمن سوء التفاهم
والوقت الضائع
لنعرف كيف ننسى الساعات
التي تقتل احيانا
بضربات السؤال: لماذا؟
سأخترع لك كلمات لا معنى لها
سأحضر الارض الى ما بعد موتي
لأغطي جسدك بالذهب والضوء
سأشيد منزلا يكون فيه الحب ملكا
يكون فيه الحب قانونا وتشريعا
وانت فيه الملكة
سأخبرك عن ذلك الملك
الذي مات لأنه لا يتعرف عليك
في شهر نيسان
الربيع يا حبيبتي
حيث تزهر الاشجار بالثمر
بالليمون والبرتقال
وحين نأتي في المساء
تشتعل السماء بين الاحمر والاسود
وهما يمتزجان ويتزاوجان
لا تتركيني’.
اما الشاعرة الروسية آنا اخماتوفا فتقول:
‘لم احب احدا
بهذه القوة من قبل
ولم يؤذني ايضا
احد هكذا’..
والحب قديم قدم الخلق… الم تخرج حواء آدم من الجنة، ولشدة حبه لها طاوعها وخرجا.. ليخرج الخلق كله الى صراع الحياة وعذاباتها، سبب كل ذلك التفاحة التي اغراها الشيطان ان تقطفها، فكان العقاب الالهي.
ففي القرن العاشر تقريبا، في حينه لم نكن نعرف لا بورخيس ولا انا، ان الرسالة الرزمة التي كتبها كيبلينرغ كانت قصة خيالية، يقص علينا فيها الحكاية التالية: من تركستان الشرقية في يوم من الايام ارسلت امرأة شابة الى حبيبها رسالة تتكون من حزمة من الشاي وحشيش جاف، وثمرة حمراء، ومشمشة جافة، وقطعة من الفحم، ووردة، وقطعة من السكر، وحصاة، وريشة صقر وجوزة، وكانت الرسالة تشير الى ما يلي:
‘لم أعد استطيع شرب الشاي، لقد اصبحت دونك شاحبة اللون كالحشيش الجاف، ان وجهي يحمر عندما افكر بك، وقلبي يحترق كالفحم، انك جميل كالوردة، وحلو كالسكر، لكن هل قد قلبك من الحجر، سأطير اليك لو كان لي جناحان، انا ملكك مثل جوزة في يدك’.
وقد حلل بورخيس لغة ويلكينس في مقال، تفسيرا لهذه الرسالة كما جاء، وكان ذلك عام 1952.
هناك لغات عديدة تعبر عن الحب، وربما اشارة، او ابتسامة، او غمزة من عين تلهب النار ويشتعل الحب.
_____
*كاتب سوري/ القدس العربي