*محمد ولد محمد سالم
شهدت الرواية العربية في العقدين الأخيرين صعوداً كبيراً ورواجاً على حساب فنون الأدب الأخرى، حتى أدى ذلك ببعض الشعراء المرموقين إلى الانتقال إلى الرواية، فإبراهيم نصر الله الذي بدأ حياته شاعراً مجيداً هو اليوم روائي كبير، وقد حمل رواج الرواية معه جدلاً كبيراً، حول انعكاسه سلباً أو إيجاباً على اللغة العربية الفصحى، فهل تسهم الرواية في تدهور اللغة وانتشار أساليب غير فصيحة أم أنها أداة للارتقاء بها وتطوير لأساليبها؟
انتهى منذ زمن طويل الجدل الذي دار حول مسألة العامية في الرواية العربية، بفضل إبداعات كتاب كبار أمثال طه حسين ونجيب محفوظ والطيب صالح وعبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وجمال الغيطاني الذين فرضوا بفضل قوة أساليبهم الفنية وفصاحة لغتهم أن تكتب الرواية بالفصحى بعد أن كانت في بداياتها الأولى حكايات تكتب بالعامية، فعاشت الرواية في الثلث الأخير من القرن الماضي قمة ارتقائها الأدبي بوصفها فرعاً من فروع الأدب الفصيح، وتراجعت العامية إلى الخلف، ولم تظهر في روايات تلك الأجيال إلا بشكل طفيف وفي الحوارات، أما في أساليب السرد والوصف والتداعي الحر والرسائل والمذكرات والخطب وغيرها من الخطابات التي تدخل في نسيج الرواية، فبقيت حكراً على الفصحى ولم تدخلها العامية على الأقل في الإبداعات التي اشتهرت وكان لها تأثير كبير، وقد أسهم هذا الارتقاء بأساليب الرواية في تلك الفترة في تطوير اللغة الفصحى نفسها، وتنقية أساليبها من التكلف والتصنع ومن المحسنات اللفظية الثقيلة الموروثة عن أساليب عصور الضعف، فقد فرضت فنون السرد ومقتضيات التنوع الأسلوبي داخل الرواية، وتفاوت الوعي لدى الشخصيات على الكتاب التخفف من الحشو والتوشية والتأنق الذي كان سائداً، والذي يظهر أثره بارزاً في المحاولات الروائية الأولى، فبين رواية مثل “حديث عيسى بن هشام” في عام 1907 لمحمد المويلحي أو “زينب” في عام 1914 لمحمد حسنين هيكل أو روايات جرجي زيدان المتوفى عام ،1914 وبين روايات مثل الثلاثية (1956 و1957) لنجيب محفوظ، أو “موسم الهجرة إلى الشمال” 1966 للطيب صالح، قطعت الرواية العربية مسيرة طويلة من التطور الأسلوبي، الذي جعل لغتها بسيطة قريبة، قادرة على الانتقال الرشيق من أعمق الأحاسيس النفسية إلى أصعب القضايا الفلسفية أو العلمية، ووصف كل ذلك بوضوح من دون أن تفقد فصاحتها، كما كان لهذا الارتقاء الأسلوبي الفضل في تعميم التعاطي مع الفصحى لدى جمهور القراء وتوسع استخدامها في مجالات أخرى .
لكن هذا المجد الذي عرفته الفصحى في عالم الرواية العربية لم يدم طويلا، فلا نكاد نصل إلى القرن الحادي والعشرين وموجة الإنترنت وما صاحبها من رواج لاستخدام العامية في مواقع التواصل الاجتماعي حتى بدأت مكانة الفصحى في الرواية تتزعزع بسبب غزو الأساليب غير الفصيحة للرواية، فقد وجد الكتاب الجدد في الإنترنت وسيلة سهلة لنشر رواياتهم وإتاحتها للقراء، وفضلوا تحت تأثير قلة الخبرة اللغوية تارة أو حب الوصول إلى أكبر جمهور ممكن تارة أخرى أن ينشروا كتاباتهم بالعاميات أو حتى بلغات تكون خليطاً من الفصحى والعامية والأجنبية، ومن النماذج الروائية التي اعتمدت هذا الخط ولقيت نجاحاً كبيراً رواية “بنات الرياض” 2005 للكاتبة السعودية رجاء عبدالله الصانع، فقد بدأت رجاء عبدالله روايتها على شكل رسائل أسبوعية تنشرها في أحد المنتديات، وكانت تكتب على سجيتها تماماً، كما يكتب أصحاب المنتديات فتخلط بين الفصحى والعامية والإنجليزية، ولقيت متابعة منقطعة النظير من طرف رواد المنتدى، ولما اكتملت الرواية نشرتها بنفس صيغتها من دون تنقيح، وظلت طباعتها تعاد وتعاد، وعدت في سنواتها الأولى من أكثر الروايات العربية مبيعاً، ولا شك أن هذا الرواج كان له أثر في أساليب الكثير من الكتاب الجدد ودفع بهم إلى محاكاة رجاء الصانع في أسلوبها الكتابي، مما كان له تأثير سلبي في نوعية الكتابات الروائية اللاحقة، ومن النماذج أيضاً رواية “عايزه أتجوز” لغادة عبدالعال المكتوبة بالعامية المصرية والتي نشرتها أولاً على شكل تدوينات يومية في مدونتها، ولقيت بدورها إقبالاً هائلاً من طرف الجمهور ثم طبعت مرات عدة وحولت إلى مسلسل، ولا شك أنها أصبحت نموذجاً للنجاح يحتذيه كثيرون .
صعود الرواية وإن كنا لا نستطيع رده فقط إلى تحوّل الكتاب الجدد الذين لا يمتلكون ناصية الفصحى، بسبب عوامل كثيرة منها رداءة التعليم، إلى الكتابة بالعامية أو بخليط لغوي، فإن من المؤكد أن هذا التحول هو أحد عناصر صعودها، ويمكن الاستدلال لهذه الفرضية بتراجع الشعر، فذلك التراجع مظهر مؤكد من مظاهر الضعف اللغوي الذي نعيشه، لأن مادة الشعر هي اللغة، بلفظتها وجملتها وصورتها وإيقاعها، ومن لا يمتلك تلك اللغة فلا سبيل له إلى الشعر .
هل يسهم صعود الرواية في تدهور اللغة الفصحى؟، لا يمكن تقديم جواب قاطع بنعم أو لا على هذا السؤال، لأن مجرد رواج كتابات بالعامية وتلقي الجمهور لها لا يعني أن الأساليب الأدبية العالية ستختفي، فسيظل هذا الأدب الجماهيري الخارج عن الرقابة الأدبية، والمعمم عبر الدعاية أو عبر الإنترنت أدباً جماهيرياً، سيبقى أدباً ثانوياً لا يعتد به عند الحديث عن النموذج الأدبي الصحيح، ومساهمة الرواية سلباً أو إيجاباً في المسألة اللغوية العربية اليوم رهينة بقرارات لجان التحكيم في الجوائز الأدبية الكبرى، لأنه في ظل غياب النقد الأدبي الذي يقدم تقييماً صحيحاً لما يكتب، أصبحت قرارات لجان التحكيم معياراً للجيد الأدبي، فإذا كانت تلك اللجان تضع في معاييرها تحقيق الرواية لمستوى معين سلامة وجودة اللغة فإن الرواية العربية ستسهم كما أسهمت من قبل في الارتقاء باللغة العربية، وإذا أغفلت اللجان ذلك المستوى فإن الرواية ستكون حينها أداة فعالة لإفساد اللغة .
________
*الخليج