سميرة عوض*
خلدون الداوود ورواق البلقاء..
لا يكفّ عن التورط في مشاريع ثقافية فنية مبتكرة، هو المتيم بمكان مولده حد «التورط»، والذي ينقل «عداوه الجميلة» دون أن تنتبه.. تظن لوهلة أنه يستجيب لمشاريعه التي تولد للتو، لكنه في العمق يستند إلى طفولة «متيمة» بالمكان، وعاشقة لحجارة الأجداد، وأدوات الجدات العتيقات وحكاياتهن.. منذ طفولة بعيدة حمل «أفكاره»، وبيّتها في «أتون» نار الإبداع لتظل تزهر في كل عام من جديد ، لكنها عميقة الجذور والرؤى.
هو مؤسس رواق البلقاء، خلدون داوود.. ربما هو «قَلَقٌ» و»قَلِق» يمشي على أفكار، لا يلبث أن يؤثثها بكل ما يحقق «أفكاره» الغريبة أحياناً، والجديدة في أحيان كثيرة، لكنها تستند إلى «التراث» المحلي دائماً، وتتوجه إلى «العالمية» غالباً.
مشروع «رواق البلقاء» الذي انطلق بدعم الأصدقاء أوائل التسعينيات، أبطل مفعول فكرة مركزية «الثقافة» في العاصمة والمدن الكبرى، شدّها من يدها وبطواعية إلى «الفحيص» (13 كيلو متراً من عمّان)، استضاف عشرات الشعراء والفنانين الأردنيين والعرب والعالميين.. فقد مر بالرواق: الراحل محمود درويش، أدونيس، قاسم حداد، أمجد ناصر، فدوى طوقان، حسين بيكار، بهجت عثمان، ألفرد حتمل، جورج بهجوري، أحمد نوار، فرغلي عبد الحفيظ، وجدان علي، يوسف عبدلكي، عتاب حريب، منى السعودي، متقذ سعيد، محمد مهر الدين، علي طالب، جريس سماوي، سلام كنعان، محمد الجالوس، عصام طنطاوي، أحمد نوار، صخر فرزات، محمد حجازي.. والكثيرون ممن وضعوا بصماتهم وتركوا أثرهم في سيرة رواق البلقاء ومسيرته.
أثمر عشرات المعارض التشكيلية، و13 كتاباً نوعياً، أعاد لحجارة الفحيص ألقها وهي تجتذب الشعر والموسيقى واللوحة، منتصراً لثقافة المكان التي تنشر محبتها في قلوب الناس، ومنهم الملوك والأمراء الذين أُعجبوا بالمكان والفكرة وتحمسوا لها، فكان أن زار الرواقَ جلالةُ الملك عبدالله الثاني ابن الحسين وجلالة الملكة رانيا العبدالله (وكانا أميرَين حينئذ)، وظلت حماستهما للمكان وعبقه «منارة» تدفع خلدون وعائلته لتحقيق المزيد.
هذه هي الشمعة التي أضاءها رواق البلقاء منذ انطلاقته قبل ربع قرن، وهي الشمعة نفسها التي يحملها اليوم، ليقدم رسالة رواق البلقاء في التواصل الثقافي بين الأردن والعالم.. هذه هي الرسالة التي حملها «منير»، والد خلدون ، وصولاً إلى حفيده «منير فادي»، مروراً بدعم ومحبة «أم خلدون» وشقيقاته الست. فسهى تدير الرواق الآن. وزوجته لينا هي «الجندي المعلوم» لدى جميع أصدقاء الرواق.
في الوقت الذي يعَدّ فيه «الرواق» مختبراً للفنون، التقت فيه الحضارات والثقافات وجهاً لوجه، جلب الرواق «الفنونَ» إلى الفحيص، كما حمل المنتج الإبداعي الأردني إلى العالم، في معارض أقيمت في العديد من الدول: ألمانيا، وهنغاريا، والنمسا، والإمارات، ومصر، ولبنان، وغيرها.
«خلدون داوود/ رواق البلقاء» -لا فرق-، لا يكف عن تقديم الجديد، ولديه «مشاريع» للاحتفال بيوبيله الفضي العام 2015، كما يستعد لاحتفالية بمرور 100 عام على انطلاق الثورة العربية. استهل برنامجه للعام 2014 بمعرض تشكيلي في بودابست بهنغاريا برعاية رئيس مجلس الأعيان د.عبدالرؤوف الراوبدة الذي قدم ندوة مهمة هناك، كما يفتتح الروابدة في السابعة من مساء الأربعاء 16 نيسان 2014 في جاليري رواق البلقاء للفنون، معرض الفنان المصري د.فرغلي عبد الحفيظ، بعنوان «وجوه من مصر»، ويقدم عبد الحفيظ في السادسة من مساء اليوم نفسه محاضرة بعنوان «المرأة قوة المجتمع»، كما يكرم الرواق ثلاث مبدعات أردنيات تكريماً لدور المرأة.
ويقيم الرواق في شهر تموز 2014 معرضاً لثلاثى فنانين فلسطينيين هم: محمد خليل، ونبيل عناني، ورنا بشارة. فضلاً عن معرض وإشهار كتاب «البحر الميت» بمشاركة محلية وعربية وعالمية، ومن المشاركين في الكتاب: الكاتب مفلح العدوان والفنان طلال معلا.. كما يشارك فيه الفنان المصري فرغلي عبد الحفيظ الذي سيقيم في زيارته القريبة، في «عشتار البحر الميت» يستلهم حكاياه وأساطيره.
ويقيم الرواق معرضاً ويشهر «كتاب الخبز» بالتعاون مع بلدية «أمودس» بقبرص» قريباً.. ويعلن الداود فيه أن العام 2015 هو عام فلسطين لرواق البلقاء، مؤكدا أن الاحتفالية الثقافية ستكرم الشاعر الفلسطيني الذي عشق عمّان محمود درويش، ويكرم الزرقاءَ المدينة التي شهدت مولد الشاعر سميح القاسم، ويكرم صويلح، المكان الذي عاشت فيه الشاعرة الفلسطينة فدوى طوقان.. كما سيتم الاحتفاء بإبداع ثلاثة من الرموز الإبداعية الأردنية وهم: عرار، وتيسير سبول، ومؤنس الرزاز.
ويستعد رواق البلقاء لاحتفالية تتزامن مع الذكرى المئوية لانطلاقة الثورة العربية الكبرى في العام 2016.
وكان رواق البلقاء أقام «السمبوزيوم الثالث لرواق البلقاء: فن، شعر، موسيقى»، بمشاركة 30 فناناً وضيفَ شرف، تتويجاً لمسيرة عشرين عاماً من عمر الرواق، محتفياً بالفن والشعر والموسيقى.
كما أطلقت مؤسسة رواق البلقاء موقعها الإلكتروني
(www.rowaq.net) الذي يشتمل على مقتنيات الرواق.
والداوود مصور فوتوغرافي أنجز آلاف الصور، وفنان تشكيلي رسم عشرات اللوحات التي تركز على المعاني الدفينة في النفس البشرية. ويحلم بتحويل «الفحيص» إلى تحفة فنية، ومن هنا انحاز للبيوت التراثية المتداعية وإعاد إعمارها، وتم حتى الآن إعمار وترميم أكثر من 15 بيتاً. كما أنه منحاز إلى الطبيعة، والبيئة البكر، والمحافظة عليها من التلوث.
الداوود، الذي عاش مرحلة ثقافة الحرب في السيتينيات والسبعينيات كما يعيش ثقافة الثورة الآن، يحلم بما أسماه «مشروع الفنون المتنقلة»، متسائلاً: لماذا يتم تحييد المدرسة والجامعة عن الثقافة؟ وهل أصبح خبر القتل بديلاً عن الخبر الثقافي؟ وماذا عن الميزانية المخصصة للثقافة؟ وهل هي أولوية أم ثانوية؟ ويتساءل عن غياب نظريات الهوية العربية وضياع اللغة أمام الميديا والإنترنت والفضائيات؟
الداوود الذي واظب على متابعة ترميم بيوت الفحيص بنفسه، رأى في إشهار «جمعية الفحيص لحفظ التراث» تتويجاً لنجاح الرسالة الثقافية التنموية التي عمل رواق البلقاء على زرع بذرتها لدى المهتمين بالعمارة القديمة التراثية والحفاظ عليها بوصفها تراث الأجداد، يحمله الآباء ليصل إلى الأجيال المقبلة.
وكان رواق البلقاء بدأ منذ العام 2003، بالتعاون مع بلدية الفحيص، على وضع خطة عمل متكامل للشروع في إخراج المتحف التاريخي لحيز الوجود، وليكون المتحف «معلماً ثقافياً لخدمة الإنسانية».
وقد توسّع الرواق خلال السنوات الماضية، وهو يضم حالياً عدداً من المرافق مثل: مكاتب إدارة المؤسسة، صالة عرض جماعي، زاوية حكاية الرواق، بيت النحت، صالة المعارض، متحف خاص بأعمال الفنانين العالميين، صالة جداريات.. إضافة إلى جاليري شطنا شمال عجلون، وجاليري وادي الأردن في الأغوار، كمساهمة في تحريك المشهد الثقافي في مناطق ريفية في الأطراف بعيداً عن مركزية العاصمة.
وكانت مؤسسة رواق البلقاء التي وُلدت في الفحيص أوائل التسعينات، كمؤسسة فردية فنية هدفها نشر الفن العربي وثقافته لترتقي به إلى العالمية، بدأت من خلال اهتمامها بالتراث والموروث الحضاري مبتدئة بترميم البيوت القديمة وكل ما يتعلق بها من تاريخ، بهدف الحفاظ عليها من الاندثار والضياع بتوثيق القديم ليصل بصورة سليمة إلى المتلقي. وبدأت ذلك بترميم مجموعة من البيوت في منطقة الفحيص في ما أصبح يسمّى لاحقاً «حارة الرواق».
* صحفية وشاعرة من الأردن
( الرأي الثقافي )