أبو بكر العيادي *
يحتضن القصر الكبير بباريس من 5 مارس إلى 21 يوليو 2014 معرضا لواحد من أشهر أعلام الفن المعاصر، هو الأميركي بيل فيولا الذي استفاد في بداياته من جماعة الفلوكسوس الثائرين على الفن المتحفي والمتمردين على كل قوانين الفن، قبل أن يشق طريقه باعتماد وسيلة من وسائل العصر هي الفيديو وتقنيته البطيئة ليبدع لوحات رائعة تعتمد على الصورة، تثبتها وتحييها في إخراج غير مسبوق.
نشأ فن الفيديو كتعبير فني في بداية الستينات، بالتقاء فنانين تشكيليين ومهندسين ومسؤولين في قنوات تلفزيونية كانوا يبحثون عن إمكانات استعمال جديدة للفيديو. أما معرض فيولا موضوع مقالنا فهو معرض استذكاري يقترح أشهر أعمال فيولا خلال أربعين عاما من 1977 إلى 2013، لوحات تشهد على خيال خصب وقدرة فائقة في التحكم بالأدوات الفنية وتوجيهها الوجهة التي يتفجر منها إبداع على غير مثال، في شكل صور مبتكرة تبهر الناظر وتحمله في عالم آخر، فإذا هو كمن يعيش حلما لذيذا في ليلة دافئة.
مشاهد دينية
أجساد تصعد ببطء كأرواح منجذبة إلى السماء، وتحتها شلالات ماء شبيهة في انسيابها المتقطع وتفتت قطراتها بسيل من النقود تتهاوى في الفضاء كنثار التبر أو بُرادة الحديد.
وفي الخلفية أصوات تقضقض اللهب وانهمار الماء وحركة الأجساد البطيئة تحيل على المشاهد الدينية التي خلدها عمالقة النهضة. ذلك أن فيولا متأثر بجو مايكل أنجلو وجيروم بوش إلى حدّ جعله يميل إلى تمثل أعمالهم واستعادتها بعد قرون، ولكن باستعمال الكاميرا بدل الفرشاة.
كذا تنزيل الصليب ودموع العذراء ومعراج القديسين وهالات الضوء على وجوه النصارى والوجد والجزع الذي يتبدّى من نظراتهم وملامحهم، ولكن في شكل لوحات تنبض بالحياة، تتحرك تحرك الأشرطة في حالة البطء.
كان لا بدّ من خلق فضاء مناسب يبرز جماليات تلك اللوحات، وقد تحوّلت ردهات القصر الكبير إلى مكان معتم، لخلق مناخ أشبه بمناخ المعابد القديمة، قصد حمل الزوار على إلغاء عنصر الزمن والتأمل بعمق تأملا أقرب إلى التهجد.
لم يراع فيولا التسلسل التاريخي فليس ذلك ما يشغل العالم اليوم في رأيه، ولا دراماتورجيا الأوبرا، لأن عمله كما قال لا يخرج من عقله بل من قلبه، من جوارحه بالمعنى الذي يمنحه إياه أبطال العصور القديمة.
يستعمل فيولا تقنيات متنوعة، بسيطة أحيانا مثل كاميرا المراقبة وفيها تبدو الصورة، متقطعة، مشوبة بغبش يوحي بأن الجسد الذي تلتقطه يتحلل، وأحيانا متطورة جدا كآلات الالتقاط الليلي المزودة بالأشعة تحت الحمراء، أو ما يعبر عنه بالصناديق العالمة، أي تلك التي تحوي أجهزة التقاط متعددة وتستعمل في الخدع السينمائية كما في أفلام جيمس كاميرون.
وفي أحيان أخرى يستعمل تقنيات يصنعها هو وأعوانه، كما هو الشأن في جدار النار الذي أطلق عليه “امرأة النار” وهو عبارة عن شجرة معدنية طولها ثمانية أمتار لها أغصان ذات ثقوب تنفث غازا مشتعلا. ذلك أنه يحرص على إعادة الفن إلى أصوله، وتزويده من جديد بطاقة الإثارة والإدهاش كما تفعل السينما. وما يشغله قبل كل شيء هو استكشاف التلقي.
كيف يمكن أن ننظر إلى الواقع بشكل أفضل لكي ندرك أسسه ونحسّ بها بعمق. يقول فيولا: “الكاميرا هي عين إضافية من مهمتها أن تعيد تعليمنا النظر، من خلال خلق ظروف غوص ملائم داخل الصورة”.
تيار فلوكسوس
الغوص والصورة هما أبرز الدوافع التي قادت فيولا إلى هذا الكون الفني. فممّا يروى أنه حينما كان طفلا في السادسة من عمره، خرج يصطاد الضفادع هو وابن عمه على متن رتم، فوقع في الماء، ووجد نفسه في قعر البحيرة حيث رأى تحت الماء عالما عجيبا من الأضواء والألوان والأصوات طبعت ذاكرته واستقرت بخياله. أنقذه ابن عمه من موت محقق، ولكن ذاكرته لم تحفظ من تلك الحادثة التي ترتاده حينا وحينا آخر سوى تلك المناظر العجيبة.
وكان منذ صغره بطيء الحركة، لأنه كان يريد أن يتأمل كل شيء، ويحسّ كل الأشياء الجميلة التي تحيط به، حتى أنه صار يحلم بإبطاء سير الزمن. فلما اشتدّ عوده، التحق بتيار “فلوكسوس″ الثائر على التقاليد الفنية، وتردّد فترة على نام جون بيك وأنصاره، إلى أن اكتشف الفيديو، وتقنية الإبطاء فيها، فقرر الثورة على التلفزيون وتغيير مجرى حياته.
وفي هذا يقول فيولا: “إن العالم يمضي بسرعة مهولة، ما يجعل أثرها متناقضا. فكثرة المعلومات تخنقنا، وكثرة الامتلاء جعلت العالم ملوّثا. ولا بدّ من إيجاد توازن. هنا يأتي دور الفنانين لردم الهوّة وخلق التوازن المنشود وتمكين إنسانيتنا من التعبير عن وجدانها وانفعالاتها”.
يتميّز فيولا عن أبناء جيله من فناني الفيديو كالفرنسيتين كاميليا هنرو ولور بروفوست بالعمق، عمق مادي نظرا لعنصر الغوص الحاضر بكثافة في أعماله، يتجلى ذلك في ماء التعميد أو ماء الطوفان أو ماء المشيمة وحتى ماء الجحيم الذي يعبره الموتى في الأساطير اليونانية القديمة، وعمق ميتافيزيقي يستمدّه من قراءاته الدائمة للنصوص الدينية، ومن يومياته التي بلغت أربعين مجلدا ضمّنها موقفه من الحياة والنفس، إلى جانب مقولات استمدّها من يوحنا المعمدان ومن البوذيين ومن كتاب الموتى لدى المصريين القدامى.
* العرب الدولية