د.سميح مسعود
يقدم المؤرخ الفلسطيني د.جوني منصور في كتابه «رؤية معاصرة لحياة وأعمال المطران غريغوريوس حجّار»، معلومات قيمة عن شخصية وطنية كبيرة ساهم صاحبها طيلة حياته في الدفاع عن القضايا العربية، وقدم دروساً بارزة ومركزية في حب الوطن والانتماء إليه، وعبّر عن اعتزازه بشعبه العربي وحضارته العربية، وانحيازه للحركة الوطنية الفلسطينية، ورفضه بكل ما أوتي من قدرة وإمكانات، لمخططات الحركة الصهيونية ومشاريعها. وقد أطلق عليه المسلمون لقب «مطران العرب»، لدوره الوطني.
قرأت هذا الكتاب بتمعن زائد، محاولاً اجتراح نمط من القراءة الجادة المتعمقة بقدر كبير من المتعة الذهنية، فانتصبت أمامي بفضل ذلك صورة حية لمطران العرب بسيرته الوطنية المتميزة منذ صباه حتى مماته، وتمكنتُ من الاطلاع على مزيج مركب من شهادات ومقالات كثيرة متآلفة أُرفقت بالنص بسياقات مرجعية، تتصل بأحداث وأفكار وصور ومناسبات متعددة زاخرة بمضامين اجتماعية ودينية وسياسية ذات صلة بالمطران حجار.
من بين تلك الوثائق على امتداد صفحات ملاحق كثيرة أُرفقت بالكتاب، توقفتُ عند وثيقة تنبعث منها إشارات تتصل بزيارة سيئ الذكر «بلفور» لفلسطين في الأول من نيسان عام 1925 للاشتراك في حفل افتتاح الجامعة العبرية في القدس بحضور حاييم وايزمان وعدد كبير من قادة الحركة الصهيونية. والمعروف تاريخياً أن الفلسطينيين قاطعوا زيارة «بلفور»، وأعربوا عن استيائهم الشديد منها ومنه. وكان المطران حجار، أحد المقاطعين لدعوة الاتحاد الصهيوني لحضور حفل الافتتاح. بينما كان من بين المدعوين الشاعر العراقي معروف الرصافي، الذي عمل في تلك المرحلة من حياته معلماً في مدينة القدس.
تكمن المفارقة في أن الرصافي لم يحضر الحفل فقط، بل قدم أيضاً قصيدة نظمها خصيصاً لتلك المناسبة بهدف توثيق علاقاته على المستوى الشخصي بدوائر الانتداب البريطانية، جاء فيها ما يلي كما هو مثبت في الصفحة 161 من كتاب د.جوني منصور:
«خطابُ يهودا قد دعانا إلى الفكر
وذكّرنا ما نحن منه على ذكر
ومجد ما للعرب في الغرب من يد
وما لبني العباس في الشرق من فخر
لدى محفل في القدس بالقوم حافل
تبوأه (هربر صموئيل) في الصدر
حنانيك يا (هربر صموئيل) كم لنا
على الدهر من حق مضاع ومن وتر
ولسنا كما قال الأُلى يتهموننا
نُعادي (بني إسرال) في السر والجهر
وكيف وهم أعمامنا وإليهم
يمت بإسماعيل قدماً بنو فهر
وإني أرى العربي للعرب ينتمي
قريباً من العبري ينمي إلى العبر
وها أنا قبل القوم قد جئت معلناً
لك الشكر حتى أملأ الأرض بالشكر».
يتجلى التصهين بوضوح في مفردات القصيدة وتراكيبها، ضمن صيغ وإشارات دلالية مباشرة توحي بالتفريط بجوهر الثوابت الوطنية، يتباهى بها هذا الشاعر علانية ومن دون حرج أو خجل، ويُظهرها بشكل خاص في مخاطبته المندوب السامي البريطاني على مسمع الدنيا وبصرها بعبارات مباشرة غير مبهمة، زاخرة بمشاعر الألفة والمحبة، رغم الظروف القاسية التي كانت تمر بها فلسطين وقتذاك جراء الاحتلال البريطاني والقمع والمضايقات.
ولكي يبرر الرصافي ما قاله في قصيدته من حيث اللفظ والمعنى، تعمد إلباسها إهاباً أرجعه إلى مسلمات دينية، وما يقترن بها من علاقات القرابة (العمومة) التاريخية مع بني إسرائيل، وقد أبرز في هذا الجانب تعاطفه معهم، وسجل في الوقت نفسه تصادماً متعمداً مع ثوابت المسلمات الوطنية.
يطغى على القصيدة عدم تقدير للبعد الروحي والمعنوي للمكان/ القدس مسرح الحدث، وعدم اهتمام بظروف الزمن الذي يحكم أجواء القصيدة، بمحمولاته الاستعمارية والصهيونية وتصادمه مع التطلعات الوطنية الفلسطينية، وبهذا تعمد الرصافي أن يصوغ شبكة تواصل جديدة بدرجة عالية من «العمالة» للآخر في ظل تداعيات الانتداب المتصهين، وعزز التأكيد على تصهينه في مطالب بيّن فيها رغبته بالتكامل مع «الآخر» العبري (ابن عمومته)، وزين تلك المطالب عند إقفاله القصيدة بالمباهاة في تقديم الشكر الوفير بنبرة عالية إلى المندوب السامي البريطاني الصهيوني «هربرت صموئيل»، مؤكداً له أنه يأتي إليه قبل قومه لتقديم الشكر إليه، ويعده بتشفيرٍ دلالي بأن أفواجاً من «العملاء» مثله من بني قومه سوف يأتون من بعده لتقديم الشكر إليه.
ليس من شك في أن الرصافي قد أدار ظهره إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، وذلك بجلوسه إلى جانب بلفور وحاييم وايزمان وامتداحه المندوب السامي البريطاني الصهيوني «هربرت صموئيل»، وأدخل نفسه في تفاعل مباشر مع أعداء الأمة ورواد المشروع الصهيوني، متجاوزاً في تصرفه فلسطين وشعبها وقضيته، ولا غرابة في هذا، لأن ملامح دلالية مرجعية كثيرة تؤكد أنه «عاش حياته الطويلة العريضة بانفلات واضح في السلوك والتصرف وغشيان الكثير من المحظورات، أخذ منه الاستهتار كل مأخذ وأزال عن طريقه كل الممنوعات وأوغل في التنقيب عن الأسرار وتعرية الذات». وهناك مصادر كثيرة تشير إليها الموسوعة الحرة تؤكد على «اعتراف الرصافي مبكراً بماسونيته واستهتاره، وبممارسات كثيرة لا تقبلها أعراف المجتمعات الشرقية».
لقد واجهت الحركة الوطنية الفلسطينية تصرف الرصافي برفض شديد، وعدّت قصيدته معيبة بمعناها ومغزاها، وأنها تتماهى مع مخططات الصهيونية وسياسات الاحتلال البريطاني ومشاريعه الاستعمارية، خاصة أنه ألقاها أمام «جيمس آرثر بلفور»، صاحب التصريح المشؤوم الذي صدر عن الخارجية البريطانية في الثاني من تشرين الثاني 1917، ووعد به بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه السياسية والقومية، وما تزال تداعيات هذا الوعد ماثلة حتى الآن.
في كتاب د.جوني منصور معلومة مهمة ونادرة تتصل بقصيدة الرصافي، مفادها أن نجيب نصار محرر صحيفة «الكرمل» الحيفاوية، المناهض الأكبر في أيامه للسياسات الصهيونية والبريطانية، قد توجه إلى الأديب المحامي وديع البستاني، طالباً منه الرد الشافي على قصيدة الرصافي، فكتب البستاني القصيدة التالية المذكورة في الصفحة 161 من الكتاب نفسه:
«خطاب ( يهودا) أم عِجابٌ من السحر
وقول الرّصافي أم كِذاب من الشعر
قريضك من در الكلام فرائد
وأنت ببحر الشعر أعلم بالدر
ولكن هذا البحر بحر سياسة
إذا مدّ فيه الحقُّ آذن بالجزرِ
أجل، عابر الأردن كان ابن عمنا
ولكننا نرتاب في عابر البحر
أيهجر أوروبا ليبني (بيته)
على قبّة ما بين مهدي والقبر
أأنت (صموئيل) سموأل أمسنا
وهل ساد أرض الانكتار بنو فهر
أنؤمن في (بلفور) بعد محمد
وعيسى وموسى والوزير من الوزر
وربك، لا، فالوحي في الذكر صادق
يكذّب ما في الطرس من لوثة الحبر
فما بالهم تاهوا وضلّوا وضلّلوا
وما يفقهوا ما جاء في حكمة السفر
دار النشر والحشر حولها
تقومون في يوم القيامة والحشر».
لقد أكد البستاني في قصيدته على انشغاله بقضايا تمتزج مع إحساسات وطنية عارمة، تكشف عن ملامح التصادم مع قوى الانتداب البريطاني والصهيونية، والانحياز الكامل إلى الشعب الفلسطيني وتطلعاته الوطنية، مما أعطى عمله الإبداعي خلوداً معنوياً وفنياً.
وفي المقابل، أدى الوقوف مع المشروع الصهيوني، في سياق تصورات مغلوطة تتوالى في سطور قصيدة تخلو من أي قيم فنية أو ومضات إبداعية، إلى منح ناظمها -معروف الرصافي- مكانة تليق به في «مزابل التاريخ».
* الدستور الثقافي