*عدنان حسين أحمد
لا يجد بعض الفنانين حرجا في أن يتخذ من حياته الشخصية مادة لعمله الفني مهما كان هذا العمل صريحا وصادما وخادشا للذوق العام، تماما كما تفعل الفنانة البريطانية “ترَسي إيمِن” التي تهزّ، بين أوان وآخر، المشهد التشكيلي البريطاني بحدث فني صاعق يُجبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة على أن تغطي هذا الحدث وتغوص في تفاصيله الدقيقة.
الفنانة ترسي إيمِن غير مولعة بالشهرة ولا تستعمل أسلوبها هذا للترويج لأعمالها الفنية الصادمة. فأعمالها الفنية أبعد ما تكون عن الدعاية، لكنها أقرب إلى الفضيحة التي تهيمن على المشهد الثقافي برمته بحيث تترسّخ هذه الحادثة الإبداعية في أذهان الناس حتى تصبح جزءا من ذاكرتهم الجمعية، ويكفي أن نشير هنا إلى بضعة أعمال فنية مثل “الخيمة”، و”سريري”، و”العذراء الأرجوانية” وما إلى ذلك.
كان والد ترسي ميسور الحال ويمتلك فندقا كبيرا في مارغيت، لكنه سرعان ما انتكس فانقلبت حياته الميسورة إلى فقر مدقع، ترك أثره الواضح على ابنته ترَسي التي تعرضت للاغتصاب في سن الثالثة عشرة.
يبدو أن تشظيات هذه الحادثة ظلت تظهر هنا وهناك في أعمالها الفنية على شكل أصداء جنسية غامضة، لا يستطيع أن يفسرها ويحلل معانيها إلا طبيب نفساني متخصص، أو ناقد تشكيلي صادف أن درس الطب النفسي إلى جانب النقد الفني.
لا بدّ من الإشارة إلى أن الفنانة ترسي إيمِن تتناول الكثير من المشروبات الروحية، وقد ظهرت عام 1997 على القناة الرابعة في برنامج حواري كانت تتحدث فيه إلى جانب سيدات أخريات عن جائزة تيرنر التي رُشحت للفوز بها، لكنها بدت ثملة جدا ولم تتورع عن شتم السيدات الأخريات المشاركات في الحلقة النقاشية وإهانتهن أمام الملإ، وحينما صحت في اليوم الثاني ادّعت بأنها قد تناولت حبوبا مهدئة للتخفيف من آلام إصبعها المكسور!
قد يعزو بعض النقاد المتابعين لتجربتها الفنية أن الثمالة أو النشوة الروحية التي يسببها تناول الكحول، هي التي تدفعها إلى تنفيذ هذه الأعمال الجريئة الفاضحة، بحيث أنها لم تُبقِ في حياتها الشخصية سرا إلاّ وفضحته أمام الملإ الأعظم، ولعلي هنا أشير إلى عملها الفني، ذائع الصيت “كل الذين نمت معهم من 1963 /1995” وهذا العمل يسمّى بـ”الخيمة” أيضا، لأنه خيمة حقيقية خطّت عليها الفنانة في داخلها أسماء كل الأشخاص الذين نامت معهم فعلا كالأهل والأقرباء والأصدقاء والعشاق، بل إنها دوّنت أسماء الجنينين اللذين أجهضتهما لسبب ما ونامت معهما بعض الوقت.
كما أنها خطّت اسم صديقها الفنان بيلي جايلدش بحروف كبيرة داخل هذه الخيمة إلى الدرجة التي يستطيع أن يقرأها من يقف خارج الخيمة بمسافة بعيدة نسبيا، الأمر الذي يكشف عن خصوصية هذه الصداقة الحميمة التي تربطهما معا.
وإذا كان هذا العمل الفني ينطوي على بعض الجوانب البريئة، إلاّ أنه في الجانب الآخر منه يكشف قدرتها على البوح بعلاقاتها الجنسية الصريحة. وقد اقتنى هذا العمل المثير للجدل تشارلس ساتشي وعرضه في نيويورك قبل أن يصبح طعما للنيران التي التهمت مخزن ساتشي، شرقي لندن عام 2004.
أما العمل الفني الثاني فيحمل عنوان “سريري” حيث أنجزته الفنانة عام 1998 ورُشح لجائزة تيرنر عام 1999 بعد عرضه في الـ”تيت غاليري”. يشتمل هذا العمل على سرير في غرفة نوم مزرية تماما. وربما لا ينتبه المتلقي إلى الفوضى التي تعمّ السرير برمته، لكنه سينتبه حتما إلى الواقيين الذكريين اللذين ألقتهما الفنانة على سريرها متعمدة كي يكونا جزءا أساسيا من المشهد العام للعمل الفني.
ثمة ملابس تحتية مبقعة ببعض الإفرازات الجسدية التي يمكن مشاهدتها على الشراشف البيضاء التي فقدت نصاعتها ضمن هذا المكان المُربك. ثمة أشياء كثيرة أسفل السرير مثل لعبة أطفال وعلب أدوية وأوراق مبعثرة تعزز الفوضى التي أشرنا إليها سلفا، لكن بعض النقاد يعزوها إلى حالة الاكتئاب التي تمرّ بها الفنانة في أوقات كثيرة. والجدير بالذكر أن هذا العمل الفني قد اقتناه تشارلس ساتشي بمبلغ 150.000 جنيه إسترليني.
تأثرت ترسي بالفنان إدوارد مونك وإيغون شله، كما أحبت أعمال صديقها تشايلد ووجدت عندهم بعض ما يدور في مخيلتها البصرية. وكعادة الكثير من الفنانين المرتبكين ذهنيا، فقد أقدمت تريسي على تدمير كل لوحاتها الفنية، حينما كانت تدرس الرسم في الكلية الملكية للفنون بلندن، وقد نجت لوحة واحدة تحمل عنوان “صداقة” من الدمار. لأنها كانت ضمن المجموعة الفنية التي تحتفظ بها الكلية المذكورة أعلاه.
تهيمن الفيغرات الثلاث على فضاء اللوحة مذكرة إيانا بلمسات المدرسة التعبيرية الألمانية التي تسيّد فيها فرانز مارك، بول كلي، أوغست ماكه وإرنست لودفيغ كيرشنر.
_______
*العرب