*فاطمة ناعوت
على مقربة من السواحل البريطانية، غرقتْ العام 1912 أكبرُ منشأةٍ صناعية بحْرية بناها الإنسانُ حتى آنذاك: سفينة “تايتانيك”، وحملتْ معها إلى قاع المحيط الأطلنطي البارد ألفَ وخمسمائة من الجثامين البشرية. وفي العام 1992، ضربَ زلزالٌ مروّعٌ أرضَ مصرَ الطيبة، وخطفَ معه أرواحَ ما يناهز الستمائة إنسان، وخلَّفَ وراءه ألوفَ الجرحى.
وتقولُ الإحصاءاتُ والدراسات إن التدافعَ والتناكبَ كانت وراء معظم حالات وفاة ضحايا زلزال مصر، للأسف. بينما أنبأتنا مؤخرًا وكالةُ أنباء الشرق الأوسط بلندن، أن التحليلاتِ التي أكدها الباحثون أرجعت ارتفاعَ عدد ضحايا غرق السفينة الشهيرة “تايتانيك”، التي غرقت في أولى رحلاتها من بريطانيا إلى أمريكا، يعود إلى أدب الإنجليز الجمّ ورقيّ سلوكهم وتحضّرهم لحظةَ الخطر، ما دعاهم إلى الاصطفاف بتهذُّب وهدوء انتظارًا لدورهم في النزول إلى قوارب النجاة! وقال أحدُ رجالات الاقتصاد من المدرسة السلوكية، إن البيانات تشير إلى أن البريطانيين في تلك الحقبة كانوا يريدون أن تكونَ تصرفاتُهم راقيةً، في الوقت الذي كان فيه الأمريكيون، على ظهر السفينة ذاتها، أكثرَ أنانيةً وتهافتًا على الحياة.
اصطدمتِ السفينةُ العملاقة، التي كانت تحفةً فنيةً فاتنة، بجبل جليديٍّ عائم على سطح المحيط. وعلم المسافرون أن ساعاتٍ قليلةً تفصلهم عن لقاء حتفهم. قدَّم الرجالُ النساءَ على أنفسهم، لينزلن إلى قوارب النجاة، وقدّمتِ النساءُ الأطفالَ على أنفسهن، وقدّم الأطفالُ الشيوخَ، وظلّتِ دائرةُ الإيثار والرُّقيّ تدورُ حتى مات معظمُ المسافرين “المهذّبين” غرقًا، بينما ظلّ قاربَا نجاةٍ لم يُستعملا أبدًا، على الرغم من أن عددَ القوارب في الأساس لم يكن ليكفي إلا نصفَ عدد المسافرين على متن السفينة!
وقال ديفيد سافدج، البروفيسور بجامعة كوينزلاند للتكنولوجيا، إنه درسَ الكارثةَ ليطَّلِع على ردود أفعال الناس في مواقف الحياة والموت. وأشار إلى مقولات النساء، الناجيات من الغرق، بأن أزواجهن أنزلوا زوجاتهم إلى قوارب النجاة، ثم عادوا إلى السفينة بحجّة أنهم يريدون تدخين السيجار! في الوقت الذي كانت فيه السفينةُ تغرق بالفعل، بينما كان انزواؤهم من أجل أن يسمحوا لنساء أخريات بالنزول إلى قوارب النجاة؛ خجلاً من أن ينجو رجلٌ، فيما يصارعُ الموجَ الثلجيَّ القاسي سيدةٌ أو طفلٌ صغير أو شيخٌ مسنٌّ! ولهذا نالتِ النساءُ والأطفالُ 70% من فرص النجاة، فيما لم يحظَ الرجالُ بتلك الفرصة.
التحضّر يُقاسُ في لحظات الخطر؛ لا في الرَغَد، ولو كان الثمن حياتنا.
الفراشةُ لا تغضبْ
إذا طاردَها الأطفالُ
وألقوا حول جناحيها شِباكًا
معقودةً في أطراف عصا.
ترمقُهم الفراشاتُ
بنظرةٍ شفوق
ثم تُلقي عليهم
ظلالاً من الألوان
وابتسامةً حزنٍ
وتمضي نحو الزهور.
________
*مجلة روز