*يوسف زيدان
مثلما يحدث دوماً كل صباح، اقتحم شعاعُ الشمس الجزء الممزق من ستارة الشباك، وأيقظ السيدة الوحيدة. كانت نائمةً كمومياءَ طازجةٍ، فى وَهْدة سريرها المقعَّر حشوه، من طول نومها بلا رفقة. طقوسها اليومية الغريبة تنهكها فى منتصف الليلات، فتستلقى مستسلمةً للغرق فى قاع بحار النوم. وقد تطفو بها الأحلامُ، فتصير أحياناً كقطعة خشبٍ حائرةٍ تلعب بها أمواجٌ تتوالى كالهضاب وهى تجرى جرىَ السحاب الخريفى.
كانت فى السابق تترك حيزاً من ستائرها المعتمة مكشوفاً وكاشفاً عن زجاج شباكها، ليسمح لضوء البكور بالتسلُّل إلى كهف عتمتها الليلة، التامة، فلما تمزَّقت الستارة من أعلاها، قبل سنوات ، أهملت الإزاحة، لحصول المطلوب من غير عناء الانشغال عن رقدتها الهانئة خفَّت عنها تكاليفُ الحياة منذ التحقتْ أختُها الكبرى بدار المسِّنين والمسنَّات، فانفردتْ، وقبل ذاك مات زوجها المتصابى فجأةً فشُفيتْ من آلام القولنج وانقطعت عنها الكوابيسُ.
أقاربُها الأباعدُ كَفوا عن التردُّد عليها، مللاً، واكتفوا بالمتابعة من بعيد، انتظاراً لموتها المريح المتيح لهم الاستيلاء على شقتها والبيت ذى الطابقين وقطعة الأرض الخلفية، وما قد يجدوه مخبوءاً فى الغرف من أموالٍ لم يعد لها صاحب.
صويحباتها اللواتى كن يتجمَّعن حولها للنميمة فى المنتدى المسمى بالنادى الاجتماعى، اليابسة أشجارُهُ، أثرن فى نفسها السأم يوماً بعد يوم، من تكرارهنَّ السؤال: لماذا لا تتزوجين مجدداً ما دمتِ مقتدرة؟ وتكرارهنَّ المجاملة اللازمة للسؤال: جميلةٌ أنت وألف رجلٍ فقيرٍ يتمناك! وتكرارهنَّ بعد ذلك أخبار الخيانات الزوجية الجارية دائماً بالفعل أو بالنية، ومظاهر الثراء البادى على من كانوا عجافاً وشبع آباؤهم من بعد جوع، وصيحات الأزياء التى كانت قد اندثرت ثم عادت مع بعض التعديلات الطفيفة. ملل. انقطعتْ عنهن وقنعت بالوحدة، فى قولٍ، وفى قولٍ آخر إنها أحبَّتْ الوحدة بعدما أهدت إليها العجوزُ العراقية، خصلة الشَّعْر الصغيرة التى غيَّرت حياتها من بعد.
كانت العراقيةُ العجوز تستأجر منها شقة الطابق الأول، وبالأحرى تعتصم بها فلا تخرج إلا نادراً. وكانتا تتكلمان كأختين. وحين أطمأنتْ لها الجارةُ العراقية، أخبرتها بأسرار كثيرةٍ منها أنها كانت أول امرأةٍ عربية تُجرى جراحات التجميل، وأن ذلك هو سبب قبحها الحاد، الحالى. ولما اندلعت كالمعتاد حربٌ فى العراق، أعلمتها بأنها تحنُّ وتنوى الرجوع إلى بلادها الأولى، ولسوف تذهب للعراق بعد شهرين أملاً فى أن تهلك هناك مع الهالكين. ليلة ذهابها إلى موطنها، بعد انقضاء الشهرين بالتمام، دعتها لجلسة الوداع وأعددت لها مُتكئاً، وألحتْ عليها حتى وافقت وشربتْ معها المعتَّق. وقبل افتراقهما قامت ابنةُ الرافدين الفانية إلى حقائبها المصفوفة قرب الباب، ودسَّت ذراعها النحيل فى الحقيبة الأقدم فأخرجتْ منها علبةً خشبية كانت محلاةً يوماً بالأصداف. فى العلبة خصلة شعر خشن، مغبَّرة، كانت ذهبية اللون فى زمن سحيق.. ابتسمت العراقية فبدت فوارغ أسنانها، وقالت ما فحواه: أنتِ مثل أختى، بل أنتِ الأخت التى لم تلدها أمى، ولأنى أعرف أنك وحيدة وسوف تبقين دوماً كذلك، فسوف أهديك هذا الكنز المخبوء منذ أزمنة غابرة، وهو لا يقدر بثمن، ولن يُقدَّر يوماً .
– شكراً يا أختى، ولكن ما هذه الشعيرات؟
– هى خصلة من لبدة الأسد الذى عشقته عشتارُ فترة، ثم فتكتْ به بعدما ضعف عنها.
– عشتار!
– نعم، سوف تشعرين بقوتها إذا تحمَّمتِ ثم مررتِ بهذا الخصلة على أنحائك وحناياكِ. ولكن لا تفعلى ذلك فى النهار.
– حاضر. شكراً على الهدية. سأتركك الآن لأنك تحتاجين لمَّ بقية حاجاتك، وأحتاجُ أن أرتاح.. تصلين بالسلامة.
* * *
مثلما يحدث دوماً كل صباح، نقر “مسعود البواب” بأظافره العتيدة فأسمعها النقرات الخفيفة المعتادة، المطمئنة. قامت متداعيةً ففتحت له الباب وتناولتْ منه الخبز الدافئ وفول الإفطار. مسعود، لا يتخلَّف عن مُعتاده، ولا يخلف أبداً مواعيده: فى الساعة التاسعة من كل صباحٍ يأتى بالفول الممزوج بالخلطة، وبالخبز، ويأتى أيام الجمع والآحاد بالطلبات من سوق الضاحية القريب، وتأتى له بالنقود، وبما قد يكون مطلوباً لسداد الفواتير المتوفرة: التليفون المعطل وجمع القمامة والغاز والكهرباء والماء، وفقاً للاستهلاك.. فواتيرُ الهواء تُسدَّد مقدماً، لأن أنفاس الناس معدودة.
قبل سنوات بعيدة، وفد “مسعود البواب” إلى هنا من قلب الصعيد، ولم يعد يوماً لزيارته. هى لم تسأله قط عن سبب انقطاعه عن أصله أو بقائه بلا زوجة أو سرّ التزامه الصارم بالمسار الذى لا انحراف له. الساعة السابعة صباحاً، بالضبط، تسمع وقع أقدامه على الدرج الهابط من سطح البيت إلى “الدكَّة” التى عند الباب الحديدى، وفى التاسعة يأتى بالإفطار ويمده نحوها ولا يرفع إليها عينيه، ثم يقول العبارة ذاتها: صباح الخير يا ست هانم.
– صباح النور يا مسعود، شكراً، فيه أىّ حاجه جديدة.
– لا يا هانم، الحمد لله.
– تستاهل الحمد.
طيلة سنوات، ظل هذا الكلام هو كل ما يتبادلانه يومياً، وعداه لا شىء فهى لا تسأله عن شىء آخر، وهو لا يحدِّثها بأى أمر. لكنها كانت تسأل نفسها أحياناً فى ابتداء الأمسيات، السؤال الاستنكارى الذى سأخبركم به بعد قليل.
طيلة النهار، يجلس مسعود كالتمثال ليحرس حديد الباب، وإلى جواره عصاه التى يعتدُّ بها ويعدُّها أفتك الأسلحة وهو يؤمن بأنها سُميت “شومة” اشتقاقاً من الشؤم الذى سوف تنزله على رأس مَنْ يتجرأ، فيستحق على الجرأة العقاب. ويؤمن بأن مداومة الهمس بالنصوص، تميمةٌ تحمى من اللصوص. ويؤمن بأن الحافظ لا يغفل، ولا ينام.. يقوم من جلسته الساكنة فى تمام الساعة الثامنة، صيفاً، والسابعة مساءً شتاءً. يغلق عليه وعلى البيت الخالى إلا من الهانم، الباب الحديدى مستحيل الفتح عسير الاقتحام، ثم يحمل عصاه ويصعد السلم إلى غرفته السطحية التى بلا باب، وبداخلها يطرح عنه جلبابه ويتهيَّأ لنوم السنُّور.. ليس من الوارد، بل ليس من الوارد، بل ليس من المعقول أصلاً أن يفعل مسعودٌ يوماً، شيئاً آخر غير ما يفعله كل يوم.
* * *
السيدة الوحيدة، المالكة، ساكنة البيت الواسع؛ لا تستعمل من الغرف الكثيرة مغلقة الأبواب، إلا غرفة نومها الفسيحة. وهى منذ سنواتٍ لم تدخل إلا صغرى غرف الحمام الثلاثة، ولا تحتاج استخدام غرفة الطعام المتسعة كيلا تحتاج خادمة لتنظيف البيت أو إزاحة غباره. والمطبخ واسع. تسأل نفسها كثيرا من دون أملٍ فى العثور على الإجابات: لماذا كانوا قديماً يوسِّعون المساكن، مع قلة عدد السُّكَان آنذاك؟ لماذا لم يُقدم مسعود يوماً ويبادر إلى انتهاكها، مع أنها إن فعل لن تقاومه؟ لماذا استغنتْ بطقوس خصلة الشعر عن كل الرجال، مع أن النساء تأنس بالرفقة، وتحب صحبة الرجال؟ لماذا إذا أغلقت النوافذ كلها والباب، تسمع أصواتاً خافتةً تأتى من جوف الغرف المغلقات؟ لماذا لا تؤجِّر الشقَّة التحتانية، مع أنها تسع كثيرين والإيجار اليوم صار مرتفعاً؟ لماذا لم تولد ذَكَراً.. بعد إفطارها على طاولة المطبخ، تبدأ ببطءٍ فى إعداد وجبتها الأخرى لآخر النهار، فتستغرق فى ذلك عدة ساعات. عمداً. هى لا تأكل فى اليوم والليلة غير هاتين الوجبتين.
بعد العصر تجلس ساكنة كى تتهيَّأ لطقوس المساء المتتابعة: إدفاءُ الماء بحوض الحمَّام، إضافةُ العطور، الاستلقاءُ فى حِضن الماء المعطَّر، الخروجُ بعد ساعة إلى غرفة النوم ورذاذ الماء يتقاطر عنها، إشعالُ الشمعة الوحيدة أمام المرآة، تأمُّل الصلة بين المرآة والمرأة. تجفيف ما بقى عليها من الماء، التحديقُ فى بهاء التكوين والاستدارات من دون اعتبارٍ لأىِّ ترهلٍ جانبىٍّ غير مهم، ومن دون الالتفات إلى تجاعيد قد تبدو عند التدقيق كأخاديد أرضٍ كانت يوماً مستوية.. ثم تبدأ استسلامها السحرى للدوامة الليلية بالنظرُ إلى ما تنظر إليه على أنه عُلبة ثُقاب، بدءُ الغياب عند الشعورُ بالدوار، الرجوعُ ببطءٍ إلى الوراء ثم الاستلقاء فى وهدة السرير الوسطى، استدعاءُ جميع النساء إلى كهف عشتار، عمقُ الغياب، سحبُ خصلة الشَّعْر من تحت المخدَّة ، التنهُّدُ، المرورُ بعود الكبريت الخشن على الأنحاء المؤهلة للإلهاب، تمامُ الغياب، احتراقُ أنحاء الكون جميعها حتى تصير رماداً تذروه الرياح.. وبعد الارتعاداتُ التى يتمُّ معها الغرقُ فى قاع بحار النوم يكون سكونُ الشَّهقات.
* * *
فى ليلةٍ شتويةٍ أدركها شعورٌ عارمٌ لا دافعَ له، عرفتْ به بل تيقنت من أن الأسد القديم قد ضَعُف عنها، فما عادتِ الشعراتُ المنهكة قادرةً على قدح الشرار. لم تنم ليلتها إلا وقد اقترب الفجر، وفهمت ساعتها ما سيكون فى ليلتها المقبلة من اختلاف عما كان دوماً، وعما هو كائن الآن. نامت. لم يدم نومها إلا ساعتين سريعتين غابت فيهما عن أصداء الصرخات الزاعقة بجنبات المدينة العجوز حيث يصخب معظمُ المغتاظين ويتظاهرون بكثرتهم فى الطرقات، أملاً فى الحصول على ضوء الشمس بالمجان. مع أنهم يعرفون أنه لا شىء فى المدينة يُمنح بلا مقابل، حتى تذاكر دخول الجنات بعد الممات.
فى تلك الليلة ابتهجتْ الهانمُ لما امتلأتْ بالنوال المرتقى، وأسعدها الخاطرُ المراوغ المؤكِّد أن الليلة موعد عُرسها، وأن مسعود سوف يُدفىء السرير ويُصلح بالنوم اعوجاج الفراش المقعَّر، ولسوف يُلهب بأنفاسه الحرَّى دثارها حتى الصباح.. بلا قصدٍ منها ابتسمتْ فانحرفت بالطلاء الأحمر الخفيف عن الشفاة اليابسة، وأصلحت الخطأ ثم استكملت ما تفعله من لمساتٍ بالمساحيق. لا يجوز لها أن تُبالغ فى الزينة، فالمبالغة تخرج بكل أمرٍ عن قصده المنشود.. الآن صارت أجمل، وقد اقتربت الساعة من التاسعة صباحاً، وبعد دقائق معدودات سوف تسمع نقرات أظافر “مسعود على بابها الموصود، غير المرصود.
* * *
نظرتْ إلى مسعود بالعين الجديدة، فرأته رجلاً مفعماً بفحولةٍ لا تعلن عن نفسها. فهذان الكتفانِ العريضانِ والعنقُ القويةُ والجلباب البسيط الدال على سموق الطول، تشى كلها بتمام الرجولة المطلوبة لهذه الليلة، وقد يدوم طلبها فى مقبل الليلات.. ولِمَ لا.
وهى تأخذ منه الأرغفة، والفول، تأملتْ الخطوط البادية على ظاهر يده، وعظام الكف القوية، فاتَّسع الأملُ. لم يلاحظ هو أنها ارتدت جلباباً أبيض مجلَّى من أعلاه بزركشةٍ كحليةٍ تسر الناظرين، وأن غطاء شعرها منسدل إلى الوراء، وأن وجهها يشرف بابتسامةٍ تمحو من آثار الزمن. لم يلاحظ، أو ربما انتبه ثم غضَّ البصر حسبما اعتاد، والعادة تحجب عنا الكثير.
لا بأس لو سألته، على غير المعتاد، عن حاله. وهو لم يجد بأساً فى أن يرد عليها بحمد الله والشكر له، لكنه بقى ناظراً إلى أسفل. على سبيل التأدُّب. فلم ير إلا طرف ثوبها السفلى، المؤطر بخيوطٍ دقيقةٍ متداخلة جميلةِ التصميم، وحذائها المنزلى المغطى أعلاه بقطعةٍ من الفرو الناعم.. ماذا بعد؟ سألتْ نفسها عما يجب عليها المبادرة به، كى تحرِّك سواكنه، من دون أن يبدوُ له الأمر مُبتذلاً. فالابتذال يثبِّط الاشتهاء. وكانت البداية التى هى مقدمةٌ للنهاية، لحظة أمسكت بيدها الخالية من الخبز والفول، بقائم الضلفةِ المفتوحة من الباب. وبرفق، أمالت رأسها قليلاً إلى القائم، وميَّلت عينيها وهى تقول له بنبرةٍ لم يسمعها من قبل، ما لم يسمعه منها من قبل:
– يا مسعود، ابقى عدّى عليا باللِّيل، قبل ما تطلع على السطح.
– حاضر.. يا هانم.
______
* عن صفحة الأديب الخاصة على الفيسبوك
______
* عن صفحة الأديب الخاصة على الفيسبوك