*عيد عبدالحليم
يمثل عباس محمود العقاد حالة خاصة وفريدة في الثقافة العربية المعاصرة، فهو كاتب موسوعي، عصامي النشأة والتكوين، لم ينتظم في الدراسة، لكنه قدم للثقافة العربية ما لم يقدمه الآلاف من حملة الشهادات العليا، حيث كان من أكثر المدافعين عن الهوية العربية وتاريخها عبر كتبه التي قاربت على المئة مؤلف، ما بين الدراسة اللغوية والنقدية والقصة والشعر والفكر، وله في كل واحد من هذه المجالات صولات وجولات .
ولد العقاد في محافظة “أسوان” جنوبي مصر عام ،1889 وتوفي في مارس/ آذار عام 1964 في القاهرة . خمسة وسبعون عاماً إذن هي عمر رحلته في الحياة، وهي رحلة عامرة بالإنجاز، فقد انشغل منذ طفولته الباكرة بالقراءة والاطلاع والتأليف أيضاً، وقد نشرت له مقالات كان يرسلها إلى الجرائد المصرية التي كانت تصدر في أوائل القرن العشرين مثل “اللواء، المؤيد” وكان عمره وقتها لم يتجاوز السادسة عشرة .
انشغل العقاد بالتجديد المعرفي من خلال إطار رئيسي وهو ربط الماضي بالحاضر والعكس، ولذلك نجده يذهب إلى التاريخ العربي القديم ليؤكد قوة الشخصية العربية وجسارتها وبلاغتها ورجاحة عقلها، وهذا يتضح لنا جلياً في سلسلة “العبقريات”، التي كتبها عن شخصية “الرسول صلى الله عليه وسلم” وصحابته “أبو بكر، عمر، خالد بن الوليد، عثمان بن عفان، وعلي بن أبى طالب” .
وهذه الكتب ليست تراجم لسيرة هؤلاء الأفذاذ، وإنما استعراض فكري للقدرات العقلية والروحية التي تميزت بها وجعلتها تختلف عن الآخرين، وتحوز مكانة “القدوة”، التي تقيد بها من عاصرهم ومن يجيء من بعدهم .
كتب العقاد هذه الكتب بفلسفة عميقة، ورؤية تحليلية تنحاز إلى الجماليات الأخلاقية للشخصية العربية والإسلامية .
دخل العقاد عشرات المعارك الفكرية والأدبية، بل لعله يكون أكثر الأدباء في هذا المجال بداية من معركته الشهيرة مع أمير الشعراء أحمد شوقي، فقد رفض العقاد ما كان يكتبه شوقي جملة وتفصيلاً، واعتبر شعره تقليداً لا جديد فيه ولا روح، على حد رؤيته، ولذلك كوّن مع صديقيه الأديبين عبدالقادر المازني، وعبدالرحمن شكري “جماعة الديوان”، وهي أول جماعة أدبية عربية في العصر الحديث، وراحت الجماعة تكيل الهجوم والضربات للخطاب الشعري لمدرسة الإحياء الشعري بزعامة شوقي، وحافظ إبراهيم، وراح العقاد وزملاؤه، يجددون في شكل العمود الشعري، وإن جاءت محاولتهم في إطار شكلي محض، وأضعف من البعد النظري الذي تحدثوا عنه، فجاءت تجربتهم الشعرية بها حالة من الجفاف، وإن كنت أرى أن تجربة عبدالرحمن شكري في “الشعر المرسل” تستحق الدراسة، لأنه كان شاعراً موهوباً لكنه آثر العزلة، ولم يحظ بشهرة رفيقيه العقاد، والمازني .
وبقدر الروح الوثابة التي امتلكها صاحب “العبقريات” وجرأته وتحديه لأمير الشعراء شوقي واتهامه لشاعريته بالمحافظة، إلا أن الأيام دارت دورتها، وتعامل المجدد القديم بصلف مع مدارس التجديد الشعري التي جاءت من بعده، حين أصبح مقرراً للجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في نهاية الخمسينات في مصر، حيث تقدم الشاعران صلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي لمسابقة أجراها المجلس، إلا أن العقاد رفض قصائدهما التي قدماها وأحالها إلى “لجنة النثر” للاختصاص، نظراً لأن الشاعرين كانا قد خرجا على عمود الشعر العربي التقليدي، وكتبا قصائد تفعيلية .
الأدب المقارن
كان العقاد يجيد اللغة الإنجليزية التي تعلمها تعليماً ذاتياً، لذا اهتم بدراسات الأدب المقارن، وقد بدأ ذلك معه في مرحلة مبكرة، ففي عام 1908 نشر في جريدة “الدستور”، مجموعة من المقالات عن الثقافة والشعر الفارسي، وقارن بين إحدى تجارب شعرائها، وهو “الخيام”، وتجربة أبو العلاء المعري، وكان العقاد وقتها في التاسعة عشرة من عمره، وفي عام 1916 نشر العقاد مقالين في مجلة “المقتطف” عن أبي العلاء المعري مقارناً بينه وبين دارون وشوبنهور، رأى فيه أن المعري تحدث عن مذهب النشوء وتنازع البقاء، مدللاً على ذلك بنماذج من شعر أبي العلاء وأقوال دارون .
في المواجهة
من الناحية السياسية كان العقاد من أجرأ كتاب عصره، بل كان أكثرهم قدرة على التصدي والمواجهة، وله في ذلك مواقف بطولية عدة، كان أشهرها عندما وقف في أوائل عام 1928 في جلسة من جلسات البرلمان في عهد الوزارة الوفدية، كانت مخصصة للتصدي لما كان يقوم به الملك فؤاد والمندوب السامي البريطاني من مؤامرات ضد الدستور المصري، فقد وقف العقاد في هذه الجلسة وقال كلمته التاريخية: “إن الأمة على استعداد لسحق أكبر رأس في البلد يخون الأمة ويعتدي على الدستور”، وكان يقصد بتلك الكلمة الملك فؤاد، الذي قام بسجن العقاد نتيجة لهذه الكلمة تسعة أشهر بعد ذلك بعد أن جاءت حكومة صدقي باشا، بتهمة “العيب في الذات الملكية”، والتي طبقت للمرة الأولى عليه .
هناك بعض الاتهامات التي وجهت للعقاد، ومنها أنه لقب ب “عدو المرأة” على الرغم من أنه وضع كتباً عن النساء منها كتابه الثاني الذي طبع عام 1912 تحت عنوان “الإنسان الثاني”، وأول مقال نشر له في مجلة الهلال عام 1924 تحت عنوان “المرأة الشرقية”، كما أن له كتاب “المرأة في الفلسفة القرآنية”، وكتاب “المرأة في القرآن الكريم” .
نظرة العقاد للمرأة ربما يراها الكثيرون من أصحاب الأفكار التقدمية أنها نظرة مجحفة، لا تعطي للمرأة قدرها الذي تستحقه، وهي من الجوانب السلبية في فكر العقاد .
____
*الخليج الثقافي