*مي منسى
على ليلتين كان لجمهور الباليه حصّته في “مهرجان البستان” مع فرقة جورجيا للرقص الكلاسيكي. ثلاث لوحات من “ريبرتوار” الكوريغرافيا العالمية، كان تصميم اثنتين منها للكوريغراف الروسي ميخائيل فوكين، “شوبينيانا” و”موت البجعة”، فيما اللوحة الثالثة المستوحاة من “غادة الكاميليا” للكوريغراف البريطاني السر فريديريك أشتون، الذي برع في تصميم كوريغرافيا تعبيرية رائعة للثنائي الخالد مارغو فونتين ورودولف نورييف على سوناتا لبيانو لفرانز ليزت.
الهواء النابع من أصالة الرقص وخلود صانعيه في سان بترسبورغ نسّم على جورجيا، الوطن الذي استشف من ألق جاره وإبداعه في فنون الرقص، ومن تقنياته الهائلة أسس مدرسة تتباهى اليوم بنجوميتها العالمية. فكما تصنع الفراشات من دقيق الأزهار، هكذا وبتلك المقادير الأثيرية التي لا وزن لها ولا ملمس، تصبح الفتاة راقصة باليه بعد أن تتعلّم أن تتخلى عن جسدها الأنسي لجناحين تتلاعب بهما الموسيقى وتحلّق على إيقاعها.
هذا الفن الرهيف، الأثيري، مهما تطوّر ونزل من عليائه، مصبوغاً بمآسي الانسان، مرآة تعكس قلقه وهزيمته كما الحب والموت، يبقى للترفيه ثمة حنين لهذا الزي المستعار من براعم الأزهار وتلك الأجسام الهيولية، تولد من شرنقة الوجود لتغدو فراشات، كم نحن بحاجة إليها كي لا تفقد الروح طواعيتها والقلب رومنطيقيته. في هذه القصيدة التي اسمها باليه، شعرنا بالحياة أجمل حين الحياة تتخلى عن جاذبية الأرض لتحلّق في سماء البراءة. موسيقى شوبان، أوحت إلى ميخائيل فوكين لوحات على أنغام المازوركا والنوكتورنة والبولونيز والتارنتيللا دخلت تحت عنوان “شوبينيانا” تحفة من ابتكاراته الكوريغرافية في بدايات القرن العشرين. راقصات رقيقات، كنفناف الثلج، يكمّلن تراثا فنيا فاق عمره القرن ولا يزال حلم كل “باليرينا” راغبة في أن تكون فراشة، افتتحن ليلة “البستان”، باقة لا ملمس لها سوى إشعاع الضوء المتوهّج منها، وراقص واحد يحوم حول الجميلات، يحمل المفضّلة لديه، يدور بها، يحلّقان معا في قصة حب خرافية. ثلاث دقائق من عمر هذه البجعة الرائعة، التي في نزاعها الأخير تؤدي رقصة الموت في قشعريرات تنساب من يديها، من جسدها الملتوي، المنتفض، منها، إلينا، نتفاعل بالأحاسيس الناضحة من موسيقى سانسانس، تروي بدقائق ثلاث ذلك السر الرهيب بين الحياة والموت.
لـ”موت البجعة” تاريخ موسوم باسم ميخائيل فوكين، الكوريغراف الذي شيّد في سان بترسبورغ تراثا من الرقص الكلاسيكي الذي لا يزال مرجعا في أكاديميات الرقص العالمية. فالعام 1907 طلب من الراقصة الشهيرة آنا بافلوفا أن تؤدي رقصة في حفلة خيرية، لم يكن كوريغراف أفضل من فوكين الشاب ليقوم بهذه المهمة وعلى موسيقى سان سانس، كتب لها رائعة “موت البجعة” حيث ثلاث دقائق نقشت أسطورتها في أجساد العديد من الراقصات اللواتي استوحين من بافلوفا اسلوبها في تأدية رفيف الموت ونصع رهافته. فما إن تهادت الأوتار تنعي موت البجعة حتى كانت نينا أنانياشفيلي، في حزمة الضوء، تعيد بنجوميتها العالمية هذه اللوحة الخالدة من موت البجعة. نجمة كبيرة هي نينا أنانياشفيلي، تدربت في أكاديمية البولشوي الروسية، على هذه الصياغة الصعبة في أن تكون أكثر من راقصة، شخصية من نساء التراجيديات العالمية. فإذا ثلاث دقائق كافية كي تشع عبقرية بافلوفا وتغدو رقصتها هذه أمنية كل راقصة قادرة على أن ترفرف مدى ثلاث دقائق على رؤوس أصابعها، فإن نينا الرائعة “ليلة البستان”، كان لها اسلوبها الخاص في إلقاء قدمها مرات على الأرض والعودة من جديد إلى رؤوس اصابعها، كما انطوت أرضا مرتين قبل الانطواءة الأخيرة. موسيقى سان سانس تفاعلت في قدراتها العاطفية والتعبيرية. هذه البجعة الساحرة لم تمت إذ عادت في تراجيديا “غادة الكاميليا” مارغريت العاشقة التي تموت حباً بأرمان. سوناتا فرانز ليزت أوحت إلى الكوريغراف البريطاني فريديريك أشتون تحفة ألكسندر دوما الخالدة في نسيج مسرحي راقص حيث الكلام للجسدين المتألقين حبا وفراقا حتى الموت وموسيقى ليزت المعبّرة على ملامس البيانو عن فصول مختصرة من هذه القصة الخالدة.
_______
*النهار