ميرجوري بيرلوف/ ترجمة: جهاد هديب
تُعتبر الناقدة الأميركية ميرجوري بيرلوف (18 ديسمبر 1930)، أحد أبرز الأصوات الحيّة في النقد الشعري في الثقافة الناطقة بالانجليزية. تدرّس شعر القرن العشرين ومطالع القرن الحالي وشعرياتهما، مثلما تكتب في الفيديو آرت والانترميديا.
تتميّز كتابتها بأسلوب خاص يجمع بين أطياف متعددة من شعراء ونقاد ينتمون إلى تيارات وتوجهات نقدية وشعرية مختلفة ومتناقضة على نحو يجعل من طروحاتها تمتلك صدقية خاصة، إلى حد يشعر أن مقالاتها تحمل طابعاً راديكالياً بمعنى ما، في حين منحها موقعها الأكاديمي الكثير من الحصانة «المعرفية»، إذا جاز التوصيف، في مواجهة أطروحات لنقاد وشعراء مرموقين من طراز الشاعر الأميركي فرانك أوهارا الذي يُعتبر واحداً من شعراء الستينيات المرموقين وأحد شعراء الصف الأول في أميركا.
تتناول في مشروعها النقدي أبرز الشعراء في الثقافة الانجلوسكسونية على نحو يبدو من خلالها أن الشعر يعمل على تطوير ذائقتها النقدية الخاصة دون أن تكون لديها مواقف مسبقة، فيأتي ما تريد قوله تباعا مع التقدم في قراءة نصها النقدي. ولعل هذا الأمر هو الذي يجعل من قراءتها صعبة أحيانا خاصة عندما تكون أميل إلى التكثيف الذي يحتاج استيعابه إلى إطلالة عميقة على الثقافة الشعرية الانجلوسكسونية، أو عندما تستخدم مصطلحات نقدية تكون قد استعارتها من لغة وثقافة مجاورتين لثقافتها. أصدرت الكثير من الكتب في حقلها النقدي، وهذه المقالة ظهرت في عدد أبريل من الشهرية الشعرية الأميركية «شعر» العام الماضي.. ما يلي نص المقالة:
«لا تستخدم الكلمة غير الضرورية، تلك التي تصف؛ التي لا تكشف عن شيء ما».
لا تستخدم هذه التجربة بوصفها «أرضَ السلام الغامضة». إنها تجعل الصورة (الشعرية) غائمة – أترك ذلك لكتّاب المقالات الفلسفية البارعة قليل.
عزرا باوند
«لا تكن ضجوراً، ولا تكن كسولاً، ولا تكن عادياً عديم الأهمية، ولا تكن مبتذلاً. إن خسارة الإصغاء إلى ذلك الطفيف أكثر مما ينبغي تقود إلى الموت».
فرانك أوهارا، 1964.
«ما من سمُوٍّ أعلى من ذلك الثالوث غير الطبيعي – أنتَ، أنا، نحن – أسناننا، فقط، تمَسُّ ألسنتنا نحن».
فينيسا بالاس، 2013.
من الذي أفسد الحفل؟
يتغيَّر الكثير من الأشياء، وتبقى أشياء أخرى كثيرة على حالها.. نصيحة فرانك أوهارا هذه: «لا تكن ضجوراً، لا تكن كسولاً، لا تكن عادياً عديم الأهمية، ولا تكن مبتذلاً»، تردد أصداء وصفة طبية لعزرا باوند في صدد الضبط والإحكام: لا تبدّد وقت القارئ، إذ تضيف له المزيد من الكليشيهات (على سبيل المثال: «أرض السلام الغامضة») أو إذ تقدم (عبارة): «مقالات فلسفية بارعة قليلا»، أو «أسناننا» بعد ذلك كلّه «تمَسُّ فقط ألسنتنا».
«إن خسارة الإصغاء إلى ذلك الطفيف أكثر مما ينبغي تقود إلى الموت». هذا القول المأثور لفرانك أوهارا يُحترم قليلاً هذه الأيام عندما تصبح أيّ من الحاجات الملِّحة أو كلُّها مرفوضةً لأنها نخبوية، وغير ديمقراطية، وقلِقة على نحو واضح، في حين هي التي أوشكت أن تكون شعراً بوصفه شكلاً فنياً. يُعلن شاعر عن نفسه بأنه أصبح شاعراً! يكفي! مَن الذي يقول (الكلام) بطريقةٍ أخرى، ومَن هو الذي أفسد الحفل؟. هنا أعود إلى عزرا باوند مرّة ثانية:
«إن التفوّق في أي فن هو أمرٌ من صنيع الحياة. لا أستطيع التمييز بين «الهاوي» و«المحترف»، أو بالأحرى، أستطيع التمييز – إلى حدٍّ بعيد – إذ أُنحاز إلى «الهاوي»، إنما أستطيع التمييز بين «الهاوي» و«الخبير». ومما لا ريب فيه أنّ فوضى هذا الراهن سوف تستمر إلى أنْ يمكن لفن الشعر أن يقدم حنجرةَ هاوٍ، وإلى أنْ يحدث ذلك، بمقدار، فإن الفهم العام لحقيقة ذلك الشعر أنَّه فنُّ شعرٍ وليس بتسلية».
ويضيف باوند: «إذا كان راهن فنّ الشعر قد قيل ذات مرة للجميع في أتلانتس (1) أو أركاديا (2) – في السنة 450 قبل ميلاد المسيح أو في العام 1920 بعد ذلك الميلاد – فإنه ليس في سبيل حداثتنا القول بأن هذا أمرٌ مبالغ فيه، أو التعتيم على ذاكرة الموتى بقول الشيء نفسه – ذلك الذي قيل بموهبة أقلّ وباقتناعٍ أقلّ»، أو أنَّ الحسَّ السليم يمكن له أنْ يخبرنا.
في (قصيدته) «معها، إلى الجحيم» يؤكد أوهارا:
«بأيِّ ثمنٍ أكره أمراً! كآبةٌ سوداء،
تتطفّل على القلبِ المُفعَمِ بالحيوية
الروحُ تُخبِرُ ذاتَها
أنتِ لم تتألمي بما يكفي ((Hyalomiel))
والأشياء كلُّها لم تتغيّر،
الصور الفوتوغرافية،
اللحظات،
وذكرياتُ باني وغريغوري وأنا، فيما نرتدي زيَّ النساء».
إن الكلمة ((Hyalomiel)) التي بين القوسين المزدوجين في الأعلى هي اسم لمَزلق (مادة لزجة ممتلئة زيتا) فرنسية الصنع من نوع miel، أي عسل، وإن هذا لكثير جدا بالنسبة لبكاء روحٍ تتعذّب، وكذلك بالنسبة لإفراغٍ (أحاسيس) في صيغةٍ تخصّ موضوعاً. عندما يقول أوهارا: «لا تكن متكبراً»، فهو يعني: «لا تكن مختالاً أو معجباً بنفسك»، أو عندما يقول في صيغة مكان: «لا مزيد من موتٍ دون موتٍ – على الفور».
1913.. دلالاتها
في ما يتعلق بمئوية العام 1913، فإن تلك السنة كانت رائعة لمجلة الطليعة الشعرية التي منحت التقييم الأول في الشعر للطبعة الأولى من «قصائد» لجورج تراكل، وديوان «كحول» لأبوليينير، وكتاب «نثر القطار العابر سيبيريا» لبليز ساندرا، وديوان «قُدّاس» لآنّا أخماتوفا. لقد استنتجتُ بعض الملاحظات الإضافية التي ليست بعيدةً مباشرةً عن إرث عزرا باوند، إنما أيضا آمل أنها قد تكون مناسبة للعام 2013:
أولاً: لا تفترض أنّ الشعر «الحرّ»، بوصفه الوضع الافتراضي للشعر، يعادل مجرّد ممارسة لتشكيلةٍ من الأسطر الشعرية.
بطاقات المعايدة، والمطبوعات الإعلانية، والتعاويذ السياسية: هي بدورها تتشكل من أسطرٍ أيضاً. و «لا تتخيّل أن ذلك سوف ينجح في شعر منظوم هو أكثر بلادة من أنْ يحقق نجاحاً في النثر» (باوند). والعكس صحيح أيضاً، أي استخدام وسائل شعرية تقليدية مثل القافية، فتذكر ذلك: «ينبغي أن تتضمن القافية بعض العناصر الطفيفة من المفاجأة إذا كانت موجودة بهدف أنْ تمنح البهجة» (باوند) أو بكلمات الشاعر – النحّات كارل أندريه: «ينبغي على بيت الشعر أن تكون له خاصية المباغتة التي تمنح الأشياء الأليفة غرابة، وتجعل من الغريب مألوفا- توتّرا بين عدم الانتظام والعادة».
ثانيا: لا تأخذ نفسك على محمل الجدّ كثيرا. ففي عصر شبكات التواصل الاجتماعي، والمعلومات اللانهائية، والمعلومات المضلِّلة، فإن «الحساسية» و«الصوت الحقيقي للإحساس» هي من بين أغلب المتاح من السلع. تذكّر ذلك مثلما صاغه والاس ستيفنس: «لسنا نحن مركز الماسة / ولسنا على مقربة منه».
ثالثا: مثل لازمة عرض المعطيات (2#)، لا تستخف بأهمية الإحساس بالدعابة والإحساس بالسخرية. تذكّر ذلك الهجاء وكذلك المحاكاة الساخرة. الملحمة الهزلية والمحاكاة هما، بالكاد، في أدنى مراتب الشعر منزلةً. دعنا نوقف ذلك الإطراء الذليل للشاعر بدءاً من الحرف الاستهلالي P (أي شاعر)، مثل هولدرلين الخاص بهايدجر على سبيل المثال، ودعنا نعيد قراءة سويفت وبوب. كان صاحب «كوميديا دون جوان» اللورد بايرون شاعراً ببراعةٍ أعلى من جدية شيللي صاحب «بروميثيوس غير مقيّد».
رابعاً: لا تسحب ورقة الضحية (3). إن الأساسي الآن، يكمن في ما يتعلّق ب (ما؟) هي الممرات التي تفضي إلى الشعر. أين هو، بعد كل شيء، الوجود الفعال (تستخدم الناقدة هنا صيغة الجمع لكلمة الوجود أو الكينونة)، أين هم الحكماء خارج النظام الرأسمالي، الذين رفضوا أيّأ من طيّباته؟ هل أنت وأنا لسنا بمتواطئين؟ تتشكل المعارضة الحالية من 99% من الـ (نحن!) إلى الـ 1% من الـ (هم!)، ربما يكون هذا شعار عظيم لتأثير سياسي لكنه لا يفعل (شيئا ما) لشعر يتحدّى إغلاق الباب في وجه المباغتة (الشعرية)، مثلما يفعل الباب ذاته.
خامساً: لا تنس ذلك، سواءً بوعي أو من دون وعي. لقد كُتبت القصائد جميعاً بعين وأذن، حتى ذلك الشعر الذي كُتب مبكرا جدا، والشعر الذي يُكتب الآن كله تقريباً. أولًا، على (الشاعر) أن يقرأ الكثير من الأشياء. لذلك، عندما (أسمع) خطرا يُحدثه رنينُ صوتٍ مثل ذلك الذي يجيء من غير (الشاعر) المثقف، فإنني أرغب في القول: ضع جانبا أغامبين، وارفع أودن الذي يخصّك؛ وجون آشبري الذي يخصّك، وآرمانتروب. ضع جانبا باديو الذي يخصك ثم اقرأ بيكيت وبيرنهارد وباخمان وبوك.
الترجمة، إجراء التعديل، الاقتباس، المقارنة، ومن ثَمَّ الخلق والإبداع: (هي من بين) «بضعة أشياء لا تفعلها» (4) ما تزال خارطة الطريق الأفضل التي نملكها كي يسِعُنا أن نفهم تلك الكيفية التي يمارس الشعر بها فعله، حتى لو كان ما يخصّنا هو «منزل يجادل»، أو شعر أعمى (5)، وذلك على الرغم من أنني أختلف في الرأي مع نبذ كلمة حق، قد صاغها دوشامب بكلمات قليلة تشبه نَفَسا جميلا. إنها الباقية – أي كلمة دوشامب – بوصفها الأكثر حقيقيةً، أيضا هي من أجل فرانك أوهارا في مرحلة مبكرة من الستينات على الرغم من أن خسارة الطفيف أكثر مما ينبغي تقود إلى الموت.
هوامش:
(1) أتلانتس: المدينة الأسطورية الإغريقية التي غرقت كاملة في المحيط الأطلسي، وأصبحت رمزاً فلسفياً عن اليوتوبيا منذ الفلسفة الأفلاطونية.
(2) أركاديا: مدينة تاريخية يونانية تعود نشأتها للعصور الأوروبية الوسطى، بنيت على أنقاض ثلاث مدن سابقة عليها ومن هنا أخذت شيئاً من رمزيتها.
(3) الإشارة هنا إلى ورق اللعب.
(4) مقالة لعزرا باوند يتحدث فيها عن القراءة وأثرها في كتابة الشعر.
(5) شعر أعمى: أي غير مرتبط بشبكية العين وبالتالي لا أصول واقعية له. وقد بات مصطلحاً نقدياً ارتبط بالفنون التشكيلية خاصة الدادائية التي أسسها الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب في العقد الثاني من القرن الماضي.
◆ ما يرد في المقالة من أسماء أعلام تعود لكتّاب ونقّاد وشعراء أوروبيين وأميركيين، ينتمون في أغلبهم إلى النصف الأول من القرن الماضي.
المراد الإشارة إليه في هذا المقال كما في النصيحة التي تحمل العنوان: «أولا» هو الشعر الحرّ أي ذلك الشعر الذي يُكتب وفقاً لخطوط أو أسطر شعرية وقد يكون موزوناً أو من غير وزن إنما ليس بقصيدة نثر، أو القصيدة بالنثر، وفقاً لما هما عليه في الدرس النقدي الغربي.
أما أن الشعر يُكتب بعين وأذن، كما في النصيحة الأخيرة، فالأرجح أن ميرجوري بيرلوف تقصد اقتران اللغة بالمخيلة، أي أن التشوش في الكلام الشعري يقود إلى تشوش في إمكانيات التخييل لدى القارئ.
استخدام القوسين الفارغين () من صنيع الكاتبة وهي واضحة في المقالة، وثمة استخدامات أخرى لهما غالباً ما اقتضته ضرورات النقل إلى العربية وما يتعلق بها من صياغات في صدد الإحالة إلى الشيء.
______
*الاتحاد