*محمد حسن
لقاء صحفي في باريس جمع بين الصحفية اللبنانية الشابة إيفانا مرشليان والشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 1991، لقاء صحفي كانت تتمناه إيفانا وقد تأجل مرتين إلا أنها أنجزته في ثالث زيارة لدرويش، دوّنه لها بخط يده، وبعد أن منحها اللقاء، كتب لها: “أعلني عن الأوراق بعد 5 سنوات على الأقل وانشريها؛ لتكن هديتي ومفاجأتي على يدك.. أنا الموقع أدناه محمود درويش”.
اللقاء الصحفي حمل في طياته بذور صداقة استمرّت حتى أيام الشاعر الأخيرة فكتب لها توصيته في أواخر شتاء 2007 يقول لها: “لقد تركت لديك أوراقا أحببتها فعلا وأنا أكتبها.. تعرفين أنني خصصت لها أكثر من أمسية لإنجازها، فهل تقدّرين جهودي وتحتفظين بها لقرائي في مكان آمن؟”.
بدت لغة إيفانا راقية وصياغتها منمّقة وكأنها استلهمت أسلوب وعبقرية درويش في قدرته على نظم الكلمات، فنظمت كلماتها وأصدرت اللقاء الصحفي في كتاب يحمل عنوان “أنا الموقع أدناه محمود درويش”.
أنا الموقع أدناه
لقاء صحفي مكوّن من 12 سؤالا مع الإجابة عنها، استطاعت إيفانا تقديمه في كتاب بشكل شيّق، قسمت الكتاب إلى أربعة أجزاء، الجزء الأول والأهم كان عبارة عن وصف لحالة الحوار وكواليسه وشغفها بإجرائه، وتحضيرها للأسئلة. في أول محاولة كتبت 20 سؤالا وأخذت المصوّرة وذهبت، لكن درويش اعتذر واكتفى بالتعرف عليها والتحدث معها حول كتبه القديمة، وبعض أحوال لبنان وفلسطين، ووعدها بإجراء الحوار في المرة الثانية إلا أن ثاني زيارة أيضا كانت عبارة عن نقاش حول كتبه السابقة مثل “قصة حب” و”يوميات الحزن العادي” وغيرهما، إلا أن إيفانا -التي كان يناديها درويش بالرهيبة- أبت أن تنصرف قبل أن تأخذ منه تعهدا كتابيا بأنه سيجري معها الحوار في المرة القادمة، وبالفعل كتب لها محمود درويش تعهدا قال فيه “أنا الموقع أدناه محمود درويش، أتعهد باسم الضمير والأخلاق والمقدسات بأن أسلم الحوار الصحفي مع الآنسة إيفانا الرهيبة، كاملا، في الساعة الرابعة من بعد ظهر السبت الموافق لـ28 ديسمبر عام 1991، وإلا فمن حق إيفانا أن تشهّر بي، علانية، وعلى رؤوس الإشهاد والأشجار.. محمود درويش ـــ 25-12-1991″.
وبالفعل في المرة الثالثة يأخذ منها ورقة الأسئلة ويدوّن إجاباته بخط يده، وفي هذا الجزء تصف إيفانا تفاصيل بيته الباريسي المنمّق، حتى مطبخه كان أنيقا وكأنه قاعة متحف؛ قبل أن تدخل إيفانا منزل درويش للمرة الثالثة، أرادت أن تشتري له هدية، لكنها احتارت، ماذا تشتري له، إلى أن استقرت على شراء بنّ وشيكولاتة، وحين وصلت وجدته يحمل لها هدية أيضا عبارة عن بنّ وشيكولاته فكانت مصادفة غريبة.
يا أمنا انتظري
في هذا الجزء الأول من الكتاب أيضا دار نقاش بينهما على هامش إجابته عن أسئلتها، تحدثا عن ذكريات طفولته، فقال لها من بين ما قال إنه حين كان طفلا كان حلمه أن يصير رساما لكنه لم يستطع، لم يكن معه ثمن الألوان، وكان الأسهل أن يحصل على ورقة وقلم ويكتب، ولذلك صار شاعرا لا رساما”.
يذهب درويش إلى مكتبه ليجيب عن باقي الأسئلة ثم يتحدث إلى إيفانا عن موسيقى مارسيل خليفة وكيف أضافت لكلماته “لقد منح قصائدي فرصة حياة مختلفة، وحرّرها من العيش المؤبد بين دفتي كتاب.”.
وفي المساء يذهبان لتناول العشاء في مطعم صيني بإحدى ضواحي باريس، وفي المطعم يقول لإيفانا: “سأعود إلى فلسطين، سأعود إلى والدتي، بعد عامين أو ثلاثة، لكنني أحب باريس، وسأزورها كما سأزور كل عاصمة عشت بها”. ثم يتحدّث بتلقائيته عن ذكريات الطفولة وكيف كانت أمّه تضربه بسبب “شقاوته”، ويقول: “أمي هي أمي. ولو استطعت أن أفك خصرها وضفائرها من لعنة الرموز لفعلت. نعم، تركت وجهي على منديلها، لأني خارجها أفقد ملامحي”. ثم يتطرّق حديثهما إلى مسألة عزوفه عن الزواج مجددا فيقول: “لأن كل ما يتحقق لا يعدّ حلما، والشاعر أو الفنان يختنق خارج الحلم” ويقول: “إلا إذا صادفت امرأة استثنائية ذكية شفافة صامتة.. روح تسير على قدمين!”، ويعود ليستكمل إجاباته، وفي النهاية ترك لها الأوراق بعد أن أتمّ الإجابة عن 12 سؤالا، وقال لها: ستحتاجينها يوما ما، ليكن كتابا أنيقا مكمّلا بالصور والرسومات”.
بيت باريسيّ
السؤال الأول قالت فيه إيفانا: “حدّثنا عن محمود درويش الصغير الجميل، وعن الريح وعن سكناك؟ فيجيب درويش باستفاضة في صفحتين بكلام يؤكد حنينه لأرض الموعد “فلسطين” وإنه لا بدّ أن يعود. وفي السؤال الثاني تقول له: “ماذا تروي لنا عن أمّك؟ سرّ قصيدتك وحاملة نجوم طفولتك؟” فيحكي لها كيف يرى في أمه ذاكرة للأرض الفلسطينية، ثم يصف أمه قائلا: “سيّدة قوية، قاسية أحيانا”.
في السؤال الثالث استفسار عن “ريتا” التي يذكرها في الكثير من أشعاره.. من هي؟ فيجيب درويش: ليست امرأة وإنما هي اسم شعري لصراع الحب في واقع الحرب!. اسم لعناق جسدين في غرفة محاصرة بالبنادق. هي الشهوة المتحدّرة من الخوف والعزلة دفاعا عن بقاء كل من الجسدين في ظرف يتحاربان فيه خارج العناق”.
أما السؤال الرابع فكان ذا أبعاد فلسفية، قالت فيه إيفانا: “كيف تعيش تجربتي المسافة والوصول؟” فأجاب درويش واستفاض بطريقة فلسفية منمّقة متحدثا عن الموت وعن الوصول إلى الهدف، سواء كان الهدف سلطة أو قصيدة أو امرأة.. أو وطنا!. وعن بيروت يقول: “عشت في بيروت 10 سنين كانت كافية لأن أعبّر عن حبّي الإنساني لها لولا صفتي الوطنية التي قد تخدش من يعتقدون أن التعبير عن حبها يعكس نية في التوطين، مع ذلك، كتبت كثيرا عن هذه المدينة التي توقع زائرها في حالة الإدمان العاطفي عليها.”.
ثم يجيب درويش بأسلوبه الشيق عن باقي الأسئلة الاثني عشر ويمنح اللقاء الصحفي كاملا بخط يده للصحفية إيفانا مرشليان لتصدره في كتاب بعد سنوات.
حوار صحفي إذن يتحوّل إلى كتاب، الجزء الأول منه أوضحناه في السطور السابقة كان عبارة عن وصف لحالة وكواليس الحوار، والجزء الثاني عبارة عن نص الحوار كاملا، 12 سؤالا مع إجاباتها كما كتبها درويش، أما الجزء الثالث فهو عبارة عن عرض صور لمحمود درويش ومسكنه في باريس، تبدأها بصورة بيته الباريسي من الخارج ثمّ صورة للمقعد الحجري الذي كان يفضله درويش للتأمل، وصورة له في مكتبته إلى جوار رفوف الكتب، وصورة أخرى أمام الواجهة الزجاجية المطلة على برج إيفل، وعدّة صور أخرى تختتمها إيفانا بصورتها معه بعد توقيعه كتاب “حالة حصار” في 2002، أما الجزء الرابع فكان صورة “زنكوغراف” لنص الحوار بخط يد محمود درويش.
______
*العرب