إيان ماكوين: الرواية نوع من التجسس



في بداية السبعينات كان شبح الحرب الباردة في بريطانيا يخيم على الجو العام، وبعد تخرجها من جامعة كامبرديج بدرجة امتياز، كانت الفتاة الجميلة والذكية، سيرينا فروم هي الشخصية الأنثوية المثالية التي من الممكن تجنيدها في وكالة الاستخبارات البريطانية M15 .
هذه الوكالة الأسطورية قررت أن تتحكم بالعقول من خلال توفير الاحتياجات اللازمة للكتاب والروائيين الذين يتفقون بتفكيرهم مع أيديولوجية الحكومة في عملية سميت ب”الأسنان الجميلة”، ويبدو أن سيرينا، المعروفة بالقارئة النهمة كانت المرشحة المثالية أيضاً للتسلل إلى عالم الكاتب الشاب الواعد توم هيلي، الذي وقعت أولاً في حب رواياته ثم ما لبثت أن وقعت بحبه وهو ما جعله الشخصية المحورية الأخرى لرواية البريطاني إيان ماكوين .
يمزج إيان ماكوين في روايته “الأسنان الجميلة” بين الواقع والخيال، وهي رواية تمثل سيرته الذاتية الفكرية التي يؤكد من خلالها تأثير الأدب في حياتنا، وفي النهاية يصل القارئ إلى نتيجة مفادها أن الرواية كلها تدور حول قصة حب كبيرة لكن الكاتب عرف أيضاً كيف يبرز تناقضات بلاده، في هذا الصدد يقول إيان ماكوين: “إن القوة الحقيقية للرواية تكمن في القدرة على تمثيل المشهد الداخلي للشخصية” بقوله “الروائيون جواسيس بامتياز” .
إيان ماكوين أصبح في السنوات الأخيرة، مؤلفاً لعمل رئيسي توج بأهم الجوائز الأدبية “جائزة بوكر” لأنه استطاع إلقاء الضوء على الأكاذيب والمكائد لكنه عرف كيف ينظم هذه الاستغراقات العميقة بدقة نفسية ملحوظة، عن هذه الرواية، حاورت “لو نوفيل أوبزرفاتور” الفرنسية الروائي البريطاني إيان ماكوين تحدث فيها عن حقيقة الارتباط بين الأدب وعوالم الجاسوسية .
ما الذي دفعك إلى كتابة هذه الرواية التي تتحدث فيها عن إنجلترا في سبعينات القرن الماضي؟
– كانت بريطانيا في ذلك الوقت مكاناً للعيش مثيراً للاهتمام، بينما كانت فرنسا تعيش فترة ما بعد ،1968 بشيء من الذهول وكانت تطرح أسئلة تتعلق بنتائج هذه الحركة، أما نحن فكان هاجس انحطاطنا كامبراطورية يؤرق مضاجعنا حيث لم تعد هذه الإمبراطورية سوى ذكرى، كما أن اليسار واليمين المتطرفان كانا في شجار عنيف وكانت أزمة الطاقة على أشدها ومن الضروري خفض أسبوع العمل إلى ثلاثة أيام لتوفير الكهرباء . باختصار، كنا في أزمة دائمة .
وفي خضم هذا المشهد، كانت رحى الحرب الباردة التي كانت بمثابة الهدية الرائعة للروائيين تدور، وكان عليهم مواجهة الثنائي المشهور آنذاك الرأسمالية والشيوعية السوفييتية وبالتوازي مع هذا كان ثمة صراع معقد على السلطة، فضلاً عن منافسات جيوسياسية ومخاطر اندلاع حرب بالوكالة تؤدي إلى إبادة عالمية، وفوق كل ذلك كان هناك عالم الجاسوسية مع عملاء مزدوجين وثلاثين وهنا في إنجلترا، كنا نحب روايات التجسس، لأنها شكل شعبي .
لكن لماذا هذا السحر بعالم الجاسوسية؟
– أعتقد أن جميع الروايات تتجسس لأنها تتدخل في الوعي البشري، وروايات التجسس أيضاً تفتح لنا أبواباً لدخول عالم ال MI5 و MI6 ووكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه)، والسماح للقارئ أن يتصور ما يمكن تصوره من دون المخاطرة بحياته .
في هذه الرواية تذكر ما تسميه بالحرب الباردة الثقافية، فماذا تعني بهذا؟
– انطلقت هذه الحرب بشكل جدي عندما بدأت وكالة المخابرات المركزية بإغراق العالم الفني بالإعانات المالية، في ذلك الوقت، كانت وكالات الاستخبارات تتجسس حتى على الروائيين وكانت تغدق المال على الناشرين والمعارض وتسلط الأضواء على التعبيرية التجريدية، فهل تعلم مثلاً أنه في عام 1950 قدمت ال”سي آي إيه” دعماً لمهرجان موسيقي هزيل في باريس، وكان هدفها أن تثبت للمثقفين اليساريين أن الركائز الثقافية الطليعية الحقيقية توجد في الغرب، وليس في مسرح البولشوي وهو أروع مسرح ورمز تاريخي من رموز الثقافة والفن بمدينة موسكو الروسية .
ولذلك رأيت أنه سيكون من المثير للاهتمام وجود جاسوسة تحاول تجنيد روائي لقضيتها، وفي الوقت نفسه، فإن الروائي يتجسس على الجاسوسة، والواقع أن الاثنين وقعا في الحب، ولكنهما بقيا حبيسي خداعهما المتبادل، من هذه الفكرة البسيطة ولدت رواية “الأسنان الجميلة” .
لماذا يتاح للروائيين أن يكونوا جواسيس جيدين؟
– أحياناً أكون جالساً في عربة قطار، وأراقب من على بعد أمتار قليلة آباء وأمهات وكيف يتصرفون مع أطفالهم، ومن خلال ذلك أشاهد دليلاً على إنسانية البشر، وذكائهم العاطفي، وعندما أنظر فإنني أتجسس، هذه أمثلة تافهة من حياتنا لكن الروائيين يهتمون بالتفاصيل الصغيرة وبمعنى أوسع، أعتقد أن الروائيين هم جواسيس لأنهم يعدون تقارير لقرائهم حسبما يفهمون الوضع البشري، والرواية ليست سوى استكشاف لحالة الإنسان .
بريطانيا في السبعينات كانت بداية دخولك عالم الكتابة حيث كنت تنشر الروايات في المجلات التي ربما كانت تمولها من قبل وكالة المخابرات المركزية وMI5 فهل يمكننا أن نقرأ رواية “الأسنان الجميلة” على أنها سيرة ذاتية فكرية محرفة؟
– على الإطلاق لأنك في هذا الكتاب ستواجه كاتبا شاباً ينشر روايات وهو هدف لعميلتي السرية في MI5 ولذا قررت أن أمنحه بعضاً من حكاياتي الخاصة التي ستقرأها هذه العميلة السرية فيما بعد، ويمكن للقارئ أن يكتشفها باختصار لأنني أردت أن أعكس صورتي في 1970 من خلال ما كتبته في ذلك الوقت حيث كنت أقدم ملخصات، وعدداً قليلاً من المقتبسات التي يمكن أن تغني القارئ عن القصة الرئيسية .
أليس حلماً لقاص شاب أن يمول من قبل وكالات استخبارات سرية كي يكتب ما يريد وأن يتم التواصل معه عن طريق جاسوسة رائعة؟
– بالطبع إنه حلم علماً بأنه لم يحدث معي أبداً ولو حدث لما قلته لك . والحقيقة أنه منذ العام 1947، بدأت “السي .آي .إيه” في بناء مجموعة من المؤسسات للقيام بعمليات تجسسية مشتركة لها مهمة مزدوجة تتفرع إلى عشرات المهام حيث يتعين عليها تطعيم العالم ضد عدوى الشيوعية وتسهيل تمرير مصالح السياسة الخارجية الأمريكية في الخارج وحشدت لهذا الغرض موارد مالية وبشرية كبيرة . وكانت النتيجة شبكة محكمة من الأشخاص تعمل جنباً إلى جنب مع ذراع الجاسوسية الأمريكية على الترويج لفكرة محددة وهي أن العالم بحاجة إلى سلام أمريكي وإلى عصر تنوير جديد وإلى ما يسمى بالقرن الأمريكي .
هكذا وفي أوج الحرب الباردة نفذت الحكومة الأمريكية برنامجاً سرياً قوامه الدعاية الثقافية وكانت الأداة الأساسية فيه ما يعرف باسم (مؤتمر الحرية الثقافية) الذي أداره عميل “سي . آي . إيه” مايكل جوسيلسون في الفترة من 1950 إلى ،1967 وفي أوج نشاطه عمل (المؤتمر) انطلاقاً من مكاتب في 35 دولة وشغل العشرات من الكوادر وأصدر ما يزيد على عشرين مجلة بارزة منها “أونكاونتور” وأقام العديد من المعارض والحفلات الفنية ونظّم مؤتمرات دولية بارزة وقدم المنح والجوائز للموسيقيين والفنانين .
وشكل هذا كله السلاح السري لأمريكا في الحرب الباردة وكانت له آثار بالغة الخطورة ربما لا تزال تمتد حتى اليوم، فقلة محدودة من الكتّاب والشعراء والفنانين والمؤرخين والعلماء والنقاد في أوروبا ما بعد الحرب العالمية لم ترتبط أسماؤها بشكل أو بآخر وسواء علمت أو لم تعلم وأرادت أو لم ترد بهذه الحملة السرية المكثفة والممتدة .
يبدو أن الحرب الباردة والجاسوسية تركتا لدى كتاب بريطانيين لامعين أمثال جراهام جرين وجون لو كاريه ومارتن أميز بصمة عميقة فما رأيك؟
– أعتقد أن النماذج التي خاضت هذا المضمار ولجته بحسابات دقيقة فرضها الواقع، لأن شبح الحرب الباردة كان يخيم على العالم برمته بل كاد العالم يدمر بإشارة واحدة من قوتين عملت كل منهما على التحكم به بكل الوسائل، والكتاب البريطانيون كانوا جزءاً من هذا التأثير الذي جمع بين الأمرين (أدب، ودراما الجاسوسية) .
ولعل شخصية جيمس بوند التي ارتبطت بستينات القرن الماضي حيث بلغ التجسس أوجه، إبان حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، عنوان بارز لذلك، وكان من أبرز الكتاب في دنيا الرواية والقصة الإنجليزية الأديب (سومرست موم 1874 – 1965) الذي امتهن أيضاً العمل الاستخباراتي من خلال رواية (الاسترقاق البشري) .
ففي عام 1915 التقى موم بضابط مخابرات بريطاني وتوطدت بينما أواصر الصداقة، ومن ثم نجح الضابط في تجنيده عميلاً لمصلحة الاستخبارات البريطانية . ومارس موم عمله من خلال إرسال رسائل مشفرة، غالباً في ثنايا مخطوطات ومؤلفات أدبية تمر عبر الحدود، جيئة وذهاباً، من من دون إثارة ريبة الشرطة السويسرية، والطريف أن موم لم يتقاض أجراً من المخابرات البريطانية، حيث اعتبر عمله واجباً وطنياً .
ولمعت كذلك روايات التجسس، على يد الروائي (جراهام جرين 1904-1991) الذي رسخ شهرته بروايته الرابعة (قطار اسطنبول) . وخلال حقبة الحرب الباردة فكر كاتب روايات التجسس الشهير والدبلوماسي البريطاني السابق (جون لوكاريه)، في الفرار إلى الاتحاد السوفييتي . وأشار هذا الكاتب وهو صاحب رواية وفيلم (الجاسوس الآتي من الصقيع 1965) أن هذه الفكرة لم تخطر له بسبب ميول شيوعية، بل كانت بدافع الفضول في اكتشاف ما كانت الحياة عليه خلف الستار الحديدي .
ما المخاوف التي تساورك من الغد؟
– بعد قضية سنودين والكشف عن حقيقة التجسس الأمريكي على العالم برمته وضلوع المخابرات البريطانية معها بت أخاف على حريتي الشخصية إلى درجة أن خروجي للتنزه بات يقلقني لأنني أصبحت مراقباً في أفضل لحظاتي التي أقضيها مع نفسي، فضلاً عن ذلك فإن تكنولوجيا اليوم تحولت للأسف ضد مصلحة الإنسان وبات همها مراقبته في خصوصيته الدقيقة ولذا فضلت ألا أفتح لي حساباً على “الفيس بوك” أو “تويتر” لأنني أريد أن أكون بمنأى عن مراقبة السلطات على مدار اليوم.
______
*الخليج

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *