*عهد فاضل
عندما ينظر البعض إلى عبد الرحمن الكواكبي، مؤلف كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، على أنه مجرد إصلاحي حائر قذفته أمواج القرن التاسع عشر إلى شواطئ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإنه بذلك ينسى عن قصد أو غير قصد أن هذا الكواكبي كان فوتوغرافيا محترفا لكن من النوع الذي يصوّر المستقبل لا اللحظة الراهنة! وحقا، إن في «طبائع الاستبداد» ما يُشبه الألبوم الذي يجمع تاريخ المنطقة العربية، في العصر الحديث.
مفردة «استبداد» تهيمن على قلم الكواكبي، تتوزع كتابه فصولا وأبوابا وأقساما ومقاطع. ذلك أنها كانت مستمدة من واقع مرير بعيد يفصلنا عنه أكثر من قرن من الزمان، سقطت فيه إمبراطوريات وولدت فيه إمبراطوريات، إلا أن ما لم يطرأ عليه تعديل جوهري هو الاستبداد الذي عرّفه الكواكبي بأنه «غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة»، أو في تعريفه الثاني للاستبداد بأنه «صفة الحكومات المطلقة العنان فعلا أو حكما التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين»، حيث لا يزال تعريفه صالحا في عالمنا العربي اليوم، وهو الذي يغلي في ربيعه القاسي محاولا الفكاك من هذا الأسر الوجودي الراسخ. ولا شيء يفسر الحال الذي وصل إليه بعض العالم العربي اليوم، من عنف مقترن بالثورة، أو من دمار مقترن بالتغيير، إلا ما عبّر عنه الكواكبي في فقرات كتابه، وما خطه قلمه من ربط ما بين الاستبداد والتخلف، أو الاستبداد والهزيمة، إلى الدرجة التي يقول فيها «..وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفّل، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور، وإذا ألزمت بالحرية تشقى وربما تفنى كالبهائم إذا أطلق سراحها، وعندئذ يصير الاستبداد كالعَلَق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها». ولربما كان الكواكبي هو أول من أشار إلى تلك العلاقة الوشيجة والمرعبة داخل الطبقات التي تشكل الحياة السياسية والاجتماعية التي تأسست في جدلية الاستبداد والتغيير.
عبد الرحمن الكواكبي (1855 – 1902)
ولد الكواكبي عام 1855 في مدينة حلب السورية، وتوفيت والدته وهو في الخامسة من عمره. وعرف عنه الإلمام باللغة التركية واللغة الفارسية. وتنقل في مناصب الدولة العثمانية، وربما هذا ما منحه دراية كافية بآليات الاستبداد التي يعرضها في كتابه نظرا وتجربة. أصدر الكواكبي جريدة «الشهباء» عام 1296 هجريا، والتي كانت الجريدة الأولى لهذه المدينة. وبعد أن تم إيقاف «الشهباء» بأمر من الوالي العثماني، اصدر جريدة «الاعتدال» التي نالها النصيب ذاته من المنع كسابقتها. وبعد التضييق الذي تعرض له الكواكبي عبر مجموعة المحاكمات والتهم الجزافية التي كانت تنهال عليه من الجهات الرسمية كالعمل على قلب نظام الحكم والاتصال بجهات خارجية، أشار جمال الدين الأفغاني عليه بالمجيء إلى مصر، ونزل عند نصيحة الأفغاني فغادر إلى مصر عام 1899، وتعرف إلى أدبائها ومفكريها، ونشر بعضا من نظره عن الاستبداد في صحفها، فاشتهر هناك وأصبح قريبا من نخبتها وقتذاك، ولعل أشهرهم الشيخ محمد رشيد رضا، الأخير الذي جعلته الأقدار القاسية طرفا في جلسة على مقهى «يلدز» أو اسطنبول، مع الكواكبي، حيث تم دس السم في فنجان قهوة الكواكبي التي يفضلها مُرةً، فكانت الأكثر مرارة بل بطعم العلقم، فلفظ أنفاسه الأخيرة قبيل صلاة الفجر بقليل. فرثاه رضا بكثير من التمجيد والتعظيم قائلا «أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال الإصلاح الإسلامي، وعالم عامل من علماء العمران، وحكيم من حكماء الاجتماع البشري ألا وهو السائح الشهير والرحالة الخبير السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي، مؤلف كتاب (طبائع الاستبداد) وصاحب سجل جمعية أم القرى الملقب فيه بالسيد الفراتي».
توفي الكواكبي في زمن الخديو عباس حلمي الذي كان يقربه منه ويكرم وفادته، وقد خصه بجنازة كبيرة. ودفن السيد الفراتي عند جبل المقطم وعلى قبره بيتان شعريان رثاه بهما الشاعر الكبير حافظ إبراهيم:
«هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى
هنا خير مظلوم هنا خير كاتبِ
قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلموا
عليه فهذا القبر قبر الكواكبي».
يحذر الكواكبي من خطورة أن يأتي الاستبداد من «حكومة منتخبة» لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد.. وقد يكون عند الاتفاق أضر من استبداد الفرد
ولم يعرف من الذي أمر بدس السم له والتخلص منه، فقد تعدد الراغبون في إزاحته عن المشهد، على ما تقول حفيدته «ضحى»، حيث كان له منافسون في حلب السورية أرادوا أن يسلبوه لقب نقيب الأشراف الذي كان الكواكبي آخر حامل له. وتضيف أن له أعداء في الدولة العثمانية أيضا.
المراقبة الشديدة
إن الاحتفال غير الفاحص للمفاهيم، ومنها مفهوم الديمقراطية، وسواه، بطبيعة الحال، لم يكن ليمنع الكواكبي من تمحيص جدواه في النتيجة، فيؤكد أن الاستبداد الذي يتميز به الحاكم «الفرد المطلق» يمكن أن يتأتى حتى من طريق «الحاكم المنتخب متى كان غير مسؤول». ذلك أن وعي الكواكبي الإصلاحي يربط الأخلاق الفردية بالنظام السياسي، وبذلك لا يكون النظام السياسي المجرد هو الحل السحري للمعضلات ما دام المسؤول لم يكن مسؤولا من داخل نفسه. بل إنه يحذر من خطورة أن يأتي الاستبداد من «حكومة منتخبة» لأن «الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد.. وقد يكون عند الاتفاق أضر من استبداد الفرد». ويرى الحل الأمثل في «المراقبة الشديدة» للحكومات كي لا يتم وصفها بالاستبداد.
يستخدم الكواكبي مفردة الاستبداد، كمفتاح مزدوج الهوية، فهو يشير إلى أداء السلطات السياسية، وكذلك يشير إلى طبيعة المجتمعات التي تنتشر فيها تلك النوعية المفرطة من السيطرة على الناس. ولو أن السيد الفراتي يميل إلى تحميل الاستبداد الدور الأكبر، وأحيانا الوحيد، إلا أنه وفي معرض تقريظه لآليات الاستبداد في نظام الحكم يقول قاطعا «المستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: (كما تكونوا يولى عليكم)..». وربما لهذا يعيد وصف الاستبداد بأنه «أعظم بلاء يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين».
ويربط الكواكبي ما بين الفكر والحرية، في تنظيم مثالي لحياة الأفراد في بيئة تضمن كرامتهم كما تضمن لهم حياتهم، ويعطي لـ«علوم الحياة» دورا مفصليا في إحساس الأفراد بقيمتهم الاعتبارية. ويرى أن الاستبداد يتناقض والتعليم، لا بل إن المستبد يكره الفلسفة والحكمة و«ترتعد فرائصه» من «الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم.. ونحو ذلك من العلوم التي تكبّر النفوس وتوسّع العقول وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه». وبسبب تناقض المصالح ما بين الاستبداد والعلم فإن هناك حربا دائمة بينهما فـ«يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها». ونظرا لكون الصراع هو في إقناع جموع الناس والتجاذب على اكتسابهم، ويسميهم الكواكبي بـ«العوام»، فإنهم «إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا». وهذا الاستسلام الناتج من الخوف هو الذي يمنح المستبد قوة لا منظورة تتكثف في نفوسهم، ولهذا اعتبر الكواكبي أن «العوام هم قوة المستبد».
يعطي الكواكبي للاستبداد دورا محوريا في رسم ملامح المجتمعات والتأثير في شخصية الأفراد، رغم إشارته التي لمحنا إليها سابقا من ارتباط الاستبداد بالمجتمع كالعلق الذي لا يموت إلا بموت صاحبه الذي تعلق عليه، مما يعطي صورة قاتمة للغاية لإمكانيات التغيير، إلا أنه لا ينفك مشيرا إلى الاستبداد كفاعل أصلي لهذه الصورة المشوهة التي تصل إليها المجتمعات المصابة به، فلا يضرب التشوه رأس السلطة، بطبيعة الحال، بل كل فروع المجتمع «الحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها: من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفرّاش إلى كنّاس الشوارع». وربما هي مسألة يراها الكثير في العالم العربي لا تزال راهنة في مؤسسات هنا وهناك، حتى لدى سائقي التاكسي والموظفين الصغار وبائعي الألبسة وعمال المطاعم، حيث تظهر أسلوبية تعاط عدائي مع الناس مجهولة السبب. ويظهر خضوع الناس للاستبداد ضمن آلية مضمرة عصية على التفكيك تجعل من أصغر موظف أو صاحب صنعة صورة من نشاط استبدادي يبدأ من الأعلى للأدنى وصولا إلى المرأة، كما يشير الكواكبي نفسه، لأن الخاضع للاستبداد يسكت على القوي ويستشرس على المرأة الضعيفة مكسورة الجناح. وبسبب هذه الآلية الغامضة من التعاملات بين الناس وصعوبة جعل التنافس مبدأ ما بين الكل فإن الخراب يصل إلى الناس فجأة دون إنذار، ذلك أنه «من طبائع الاستبداد أنه لا يظهر فيه أثر فقر الأمة ظهورا بيّنا إلا فجأة».
المدارس تحارب الجريمة لا السجون!
في باب بليغ وعلى درجة من الروعة لا توصف، يفنّد الكواكبي بعض الأخلاقيات التي تسود في مجتمعات تخضع لسلطات استبدادية، والمؤلف بذلك سطر المحاولة الأولى والأشهر لنقد الجماعة، وليس فقط النظام أو الحاكم. وهي مسألة جوهرية لطالما نفتقدها اليوم حتى بعد مرور أكثر من قرن على الكتاب. فيشير الإصلاحي العميق إلى جملة من القناعات التي يكررها العامة من الناس ظنا منهم أنهم يمارسون حكمة رفيعة في حيواتهم، ليتبين الأمر بأن هذه القناعات ليست أكثر من ممارسة سرية لنظام استبدادي تغلل في الألسنة ووعي المتكلمين. فتنقلب الحقائق ويعتقد الناس أن «طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين». ومن أشهر المقولات التي يكشفها الكواكبي، تلك التي لا تزال مشتهرة إلى الآن وفاعلة في ثقافة الشارع العربي من مثل «إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب»، ويعتبر أن مثل هذه الحكمة ليست أكثر من قلب للحقائق تزور حقيقة الفعل وترفع شأن الخضوع والرضوخ.
رغم أهمية كل التفاصيل التي ذكرها الكواكبي عن مظاهر الاستبداد وآلية عمله، فإن وعي الكواكبي بالتغيير يتسم بأكبر قدر من الحكمة والنظر الثاقب، كما لو أنه يحذرنا منذ أكثر من قرن مما يمر به العالم العربي الآن. فالسيد الفراتي، رغم حربه المفتوحة على الاستبداد فإنه لا يجد من الأفضل استئصاله بالعنف، بل باللين والتدرج: «الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج»، كيلا تكون «فتنة تحصد الناس حصدا». فهنالك مخاوف من أن يؤدي هذا العنف، أو التغيير غير المخطط له لاستحضار «مستبد آخر تتوسم فيه أنه أقوى شوكة من الأول، فلا تستفيد شيئا إنما تستبدل مرضا مزمنا بمرض مزمن». ولهذا يؤكد الكواكبي في سبق تكرر كثيرا في طبائعه على أمر مهم وهو «تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد» قبل «مقاومة الاستبداد».
متعة قراءة طبائع الاستبداد لا تتأتى وحسب من قيمة النظر الفلسفي والاجتماعي المبكر الذي قام به السيد الفراتي الذي أنهى حياته فنجان قهوة مسموم كان آخر ممارسة استبدادية عرفها المؤلف بنفسه مرة أخرى!.. بل بكمية التطابقات التي يمكن أن يجريها القارئ ما بين الكتاب وزمنه الحالي، خصوصا ما يتعلق فيه بآليات الاستبداد وطرق مكافحته. ولعل الكواكبي الذي هرب من حلب السورية إلى القاهرة، للمفارقة، كان سيهرب الآن، بالآليات ذاتها والأسباب ذاتها. هذا إن استطاع الهرب، بطبيعة الحال!
هكذا سنصدق كل جملة قالها الكواكبي حتى التي تواضع فيها معبرا عن سماحة نفسه واحترامه للغير: «ما أنا إلا فاتح باب صغير من أسوار الاستبداد».
_________
*مجلة المجلة