*زهير الهيتي
تنزع الشاعرة أمل الجبوري عباءة الرقة التي تميّزت بها من خلال دواوينها السابقة “خمر الجراح” و”اعتقيني أيتها الكلمات” و”لكَ هذا الجسد، و”هاجر قبل الاحتلال” التي بدأتها منذ عام 1986 وصولا إلى ديوانها الأخير الصادر عن دار الساقي “أنا والجنة تحت قدميك” لتصدم القارئ بقسوة شعرية نادرة، حيث تقوم بفتح جرح الوطن وتزرع فيه علامة استفهام بحجم فاجعة من النوع الكربلائي لتتركنا بعدها ننزف مع الكلمات وعلامة الاستفهام تكبر وتأبى أن تغادرنا.
تحيلنا الشاعرة أمل الجبوري في ديوانها “أنا والجنة تحت قدميك” إلى نتف متناثرة قد نحسبها من اللامعنى، نتأرجح ما بين الحزن والأسى والغصة، نتساءل “لماذا حدث كل هذا وكيف؟”.
نحن الشهود والضحايا والجلادون، تخلط الأوراق بمهارة وتُقيّدنا أمام فاجعتنا بلا أيّ أقنعة نحتمي بها من الحجم الهائل للهزائم والانكسارات التي صنعناها. “نحنُ هنا.. كان يا ما كان.. يا أم بيداء مرّ الزمان.. وأرواحُ العراقيينَ الذينَ لم تعتذر أميركا لهم حتى بعدما وضعنا إكليلَ الزهور فوق نصب قتلة أبنائنا (…) ولم يعرفوا أيّ قدر جاء بالمارينز إلى أرضهم.. ولماذا يموتون ويستمرون في الموت.. والحكومة بدل أن تطالبهم بالاعتذار منا.. تضع أكاليل غار على جنديّهم المجهول”. هنا تضع الشاعرة قارئها أمام إشكالية أخلاقية لا تولد فينا غير المرارة واستعادة المثل القديم “إذا لم تستح فافعل ما شئت”.
قلب الأم
تَلبّسَت الشاعرة الجبوري ثنائية الأمّ/ الاحتلال، حيث تأخذ مقولة تنسب إلى الأحاديث النبوية جاء فيها القول: “الجنة تحت أقدام الأمهات” فتزيد عليها وتخرج لنا بعنوان الديوان “أنا والجنة تحت قدميك”.. إذن هي مرثية لكل أم في بلد وضع فيه هذا الكائن تحت شروط هي الأقسى للقيام بهذه المهمة القاتلة.
أحيانا يعلو صراخ الشاعرة ليطغى على شاعريتها بسبب الفاجعة التي ترمز اليها صورة غلاف ديوانها الشعري
أن تكون أمّا عراقية في بلد تحاصره على الدوام الفاجعة ويتنفس فيه الرعب بوتيرة شيطانية ويتوالى على زمام حكمه الأجلاف والقتلة وأنصاف المثقفين وسارقو البنوك، وكل من هبّ ودبّ!
حاولت الشاعرة أن تقرّب حجم المأساة التي نرغب من أعماقنا في تناسيها أو تجاهلها وتضعها أمام بلادتنا وإصرارنا على عدم الاستيعاب بلغة تتخذ أحيانا وعورة الطرح المباشر لتسأل كل واحد منا.. كيف يمكن لشعب أن يَضِيعَ وطنا؟!
تبدأ منادب الأمهات من أول قصيدة “العراق غير الرحيم”، “يا وليد يا أول أولادي” وآخرها “بس عاد” وهكذا تتخذ من الشكل التاريخي للعراق الحديث مادتها لتسليط الضوء على الرعب الذي رافق الأمهات ولا يزال “أعرف يا أمي أن قلبك الأول له حدس الأنبياء.. يتنبأ بما لا يدركه غير الله.. ألست أنتِ الله في ثوب امرأة؟”.
أوجاع العراق
تبدأ ملحمة القتل والسحل في متن الديوان منذ انقلاب 14 يوليو 1958 الذي توّج بقتل الملك الشاب فيصل الثاني وسحل جثته في شوارع بغداد، فتقول: “وأنتِ يا أمي بكيت حينما لم يحم القرآن ولا الراية البيضاء ملكك فيصل وآل بيته.. شهدت موتا فجائعيا وانتقامات.. ولم تعودي تعزفين على قيثارتك كلما ذهبت إلى بستانك.. وأن تقطعي كفك بالسكين حتى لا تصفقي لزعيم قادم بعدما كنت تحبين الملك”.
ثمّ تمرّ الشاعرة على كل أوجاع العراق، ملجأ العامرية، المقابر الجماعية، الحرب الطائفية في قصيدة طريحة الفراش، حيث تقول فيها: “حتى المجرمون لم يفلتوا من الموت المنتشر مثل الطاعون.. كلنا جميعا في أرض حرام اسمها العراق الشيعي.. العراق السني.. وما بينهما صلوات السلام لسيدنا إبراهيم والمسيح خافتة.. محنطة.. وعزلاء غير قادرة على أن ترتفع فوق أصوات الذبح”، هذا بالإضافة إلى الاحتلال والحرب العراقية الإيرانية.
باتجاه الموت
القسم الثاني من الديوان اختارت له اسم “باب شهداء الحرية” الذي ضمّ أسماء كوكبة من المغدورين ابتدأتها بقصيدة “إمام الحرية.. حسن مطلك” وهي واحدة من أروع قصائد الديوان لبلاغتها وسلاستها وتناولها لشخصية أدمت قلوب الوسط الثقافي العراقي في ثمانينات القرن الفائت حيث أطفأت الهمجية البربرية شمعة موهبة كبيرة كانت تبشر بإحداث ثورة على الأدب الخانع الذي وصم مثقفي العراق إبان الثمانينات وتسأله أمل الجبوري السؤال الذي سيبقى معلقا في باب القصيدة “لماذا كنت متقدّما كثيرا على خرائبنا؟” ولا تنسى الشاعرة أسماء مثل هادي المهدي وضرغام هاشم وجواد الأسدي وأطوار بهجت وغيرهم.
حاولت الشاعرة أن تقرب منا حجم المأساة التي نرغب من أعماقنا في تناسيها أو تجاهلها وتضعها أمام إصرارنا على عدم استيعابها
الشاعرة على ما يبدو أرادت أن تصفي حساباتها مع الجميع، أن تحفظ حقوق الجميع، أن تصرخ في وجه الجميع.. أحيانا تلجأ إلى الترميز أو إرسال رسائل مشفرة إلى أشخاص بعينهم: “كان زملاؤك يصرّحون بأنهم ضحايا النظام.. ملاحقون بسبب قصائدهم لا غير.. حتى أتعبوا حملة كاميرات الإعلام الغربي.. التي كانت بأمس الحاجة إلى هؤلاء لشرعنة الحرب ضدّ العراق 2003.. خاصة إذا كان الشاعر مختفيا أو متخفيا أو حتى إذا تعّدى الأمر إلى شاعرة،، ساخرة، من بلادك.. أصبحت فيما بعد بطلة الحرية في بلاد الأميركان!”. أحيانا يعلو صراخ الشاعرة ليطغى على شاعريتها ولا غروّ فالفاجعة تأخذنا من صورة الغلاف المميزة لنساء عراقيات تدفع الريح بعباءاتهنّ قليلا نحو اليسار وهنّ يسرن باتجاه “الموت” في مقبرة السلام بالنجف الأشرف، السراب الصحراوي في أعلى الصورة يعكس خيالاتهنّ على رمال الصحراء الحارقة، لا شيء ولا معنى هناك غير الموت.
استطاع الفوتوغرافي الفذّ اقتناص قلب الوجع وتخليده، حيث كتبت دار النشر ملاحظة على الصفحة الثانية “حاولنا جهدنا الاتصال بصاحب حقوق صورة الغلاف ولم نوفّق. الرجاء ممّن يعرف عنه شيئا إعلامنا” وهذا يكمل المشهد السريالي المؤلم للحقوق العراقية المهدورة وكما تقول الشاعرة “فلا عودة للغائبين في أرض السواد”.
في النهاية لا أفهم كيف أن الشاعرة أمل الجبوري المعروفة بمواقفها ضدّ الاحتلال والتي وثقتها في ديوانها “هاجر قبل الاحتلال، هاجر بعد الاحتلال” الذي حازت عليه جائزة جومسكي بعد ترجمته إلى اللغة الأنكليزية، تضع أسماء: المغدور الفنان الشاب هادي المهدي الذي قام بالاحتجاج السلمي وسط بغداد في ساحة التحرير والذي سجلت قضية قتله ضد “مجهولين”، واسم الكاتب المعروف “شلش العراقي” الذي يكتب باسم مستعار خوفا من التصفية، مع اسم شخص مثل كنعان مكية الذي وصفته في الهامش “المفكر العراقي الشهير.
أليس هو هذا نفس الشخص الذي نطق بعبارته الشهيرة أثناء قصف بغداد بالصواريخ الذكية العابرة للقارات واصفا الانفجارات التي كانت تهز عاصمة العباسيين بأنها مثل عزف سيمفوني جميل.
_______
*العرب