رماد القلب


*منيف الهلالي

جالساً على فوهة القلق ومتكئاً على كوم من الأوجاع التي ورثناها من ورش النخاسة التي بُيعت فيها مصائر الشعوب العربية ومستقبلها، كنت اتصفح الجريدة اليومية متأبطاً ديوان شعر، إذ بالدكتور عامر يعود من الجامعة متأخرا على غير عادته، وقد بدت على محياه علامات الضيق والحيرة، وانبعثت من بين أوراقه رائحة الحبر المغلف بأمواج العتمة، وهو الذي يذهب ممتطيا الضوء ويؤب مرفرفاً بأجنحة الأمل. حاولت اكتشاف خفايا حزنه، غير أنه أخذني إلى زاوية قريبة وشرع يزيل ما علق بنفسي من ركام السياسة ومتاعب السنين، قائلاً: في ظل التشظي والانقسامات التي يشهدها البلد إياك أن تدع الضغينة تجد طريقها إلى قلبك العامر بالحب، كن أنت، فقد خبُرتك محبا للوطن، عاشقا لذرات ترابه، دعك من أولئك الذين يتسابقون لاسترضاء الخارج، متخلِّين عن أوطانهم مقابل حفنة من المال، فإن لعنة العمالة ستقض مضاجعهم، وإن تأخرت لبعض الوقت، حتما ستأتي على ما شيدوه فتجعله دكا، لا تخشَ الموت، فلا ضير أن تمد تربة الوطن ذراعيها لاحتضان بعضنا، فإن الأوطان المغتصبة لحظة فكاكها من قبضة اللصوص تأكل الشرفاء من أبنائها كتلك القطة التي تأكل بعض صغارها خوفاً عليهم، إذ ترى وجودهم في جوفها أكثر أمنا لهم من بطش الواقع، لكنها في نفس الوقت تترك البعض الآخر ليتحملوا عبء تخليص الواقع من أوكار الظلمة.

غادرني دون أن يدع لي فرصة التعرف على الراهن الموبوء بالصراعات والتطرف، فأيقنت حينها أن ثمة مكروها محدقا يترصد بالوطن.
في تلك الليلة.. وهروباً من الأسئلة التي أمست تلهب بسياط صخبها ذهني المتعب؛ دخلت مع الكرى في معركة الهزيع الأخير من الليل، بعد أن وضعت قلمي على المنضدة القريبة، وأحلت هاتفي على الوضع الصامت، محاولاً القبض على الكائن المتمرد على جفوني، كما يعمل معي ساعة أن يمد الصباح يده إلى دفتري يتحسس آخر مفردات المساء، غلبته هذه المرة بأعجوبة، لكنه ظل ممسكا بي دون فكاك حتى منتصف نهار اليوم التالي، كانتقام يود أن يرضي به غروره..
نهضت أتصبب تعباً ونهض الخوف على فمي بكامل قواه، يشتق صرختي الوحيدة ‘اللــــــــــــــــــه’، أمسكت بهاتفي الصامت حد الموت، فإذا بإحدى وأربعين مكالمة لم يرد عليها، ورسالة أيضاً، شعرت أن ثمة فاجعة تلوح في الأفق، بقيت أسألني وأنا أحاول إدخال كلمة السر الطويلة التي خاطت عش أسراري: ترى أي حدثٍ جللٍ يترصدني؟ أثمة مكروه أصاب الوطن أم فاجعة أخرى تفتل خيوط حدوثها الآن؟
ما زلت تائه الإدراك أحاول لملمة الأحرف التي تمثل خارطة الطريق إلى الحقيقة، غير أن محاولاتي باءت بالفشل، رمز الدخول غير صحيح، حاول مرة أخرى، هكذا خاطبني الهاتف ثم وضع الأحمر على خده مشيحاً وجهه عني، عبثاً أفتش في جيب الصمت عن حرفٍ يوصلني إليّ.. معتصراً عقلي عله ينعش ذاكرتي المشوشة. شعرت بالمكان يضيق بي فتركت الغرفة متوجهاً شطر فناء المنزل، توقفت بالقرب من الشجرة التي نمت جذورها في صدري، كنت أود تذكر كلمة السر التي غيبت عني حدثاً يتدحرج في صدري كرة من لهب، الحديقة يسودها الصمت، والشارع القريب تشوبه حركة خجلى، قلبي يخفق بصخب مثقلٍ بالخوف والقلق، وبضعة مسلحين يجوبون الهجير بأعين تحصي الأنفاس والخطى، فجأة توقفتْ على الهاتف فراشة كانت تبحث عن ملاذ آمنٍ يقيها من غضب الشمس وقسوة الطبيعة، منخدعة بجمال الزهور التي على شاشة التوقف، غير أنها غادرت سريعاً حين اكتشفت تواجدها في المكان الخطأ، مخلفة وراءها شيئاً من رماد جناحيها، الأمر الذي أعاد إلى ذهني ‘ ‘ الجملة التي أنهكتُني وأنا أبحث عنها، متسكعاً في مدن ذاكرةٍ خيم عليها اليباب، كلمة المرور التي أخذتني إلى حجرة الرسائل كيما أواجه حقيقة توجسي.
ثمة صوت غريب يمنعني من فتح الرسالة غير أني أدركت ألا مفر..، فتحتها بصمت.. وأحرفها الثكلى تحدق في سطور قلبي بحزن موجع، قائلة: ‘ قتلوا الدكتور عامر’، أسندت رأسي إلى جذع الشجرة القريبة، بينما تدحرجت على خدي دموع حمراء كلون الأفق، حاولت أن أصرخ لكن صرخاتي كانت تختفي في ضجيج الفاجعة.. استجمعت آخر أنفاسي، بصعوبة، وذهبت ـ ترافقني كآبة سوداء ـ أتفقد مدينتي التي تستظل بجناح الموت.
‘ قاص يمني/القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *