ظنون بحجم الحبّ الذي كان


*سعدي عباس العبد

( ثقافات )

 تدافعت السنوات في ذاكرتي , تجري في زحام محموم ..! سنوات جامحة حافلة باللهفة والتوق , تتدفق من اقصى الذاكرة .. تدافعت من اقصى الروح , حالما رايتها بقامتها الفارعة المغمورة بنور النهار وبشعرها المحلول الطويل المتموج المسفوح في الهواء .. حالما طالعتها تدفقت تلك الايام الخوالي تجري تحت سماء من اللهفة . فانقذف برمّتي في مجرى من الحنين والتوق . حنين ينضح من اقصى الروح الملتاعة .. حنين لتلك الايام النادرة . الايام الموغلة في نفق طويل من الذكريات , ..
• كانت تستند بظهرها إلى شجرة شاخصة عند الجرف , مانحة وجهها المورّد الحالم إلى النهر ولريح العابقة برائحة الادغال .. منذ سنوات طوال حافلة بالاوجاع والضّياع لم ارها .. ! اية مصادفة قدريّة ساخرة , تلك التي جعلتني اقف ذاهلا على شفا حفرة من الذكريات , اقف قبالتها وجها لوجه , لم يفصل بيننا سوى حاجز من الاشجار الماثلة عند كتف الشاطىء . حاجز ضاعفت اتساعه سنوات الغياب والفراق .. انتظرت انّ تلتفت ناحيتي .. ولكنّها كانت مشغولة بملاحقة امواج النهر في رحلتها السرمدية نحو المصبّات البعيدة ..كانت مشغولة بمراقبة حالمة . كانت شاخصة على مقربة من الامواج , الامواج التي كانت تغمر قدميّها وهي تتسلق تخوم الشاطىء وترتدّ وتعود لترتطم بالمسطّحات المدغلة , .. كان إحساسي باللهفة يزداد تماسكا ونموا وانا ارى إلى قامتها الفارعة تزداد التحاما بتلك الشجرة الظليلة الوارفة المشّعة اخضرارا مضيئا وإلى وجهها الحالم المستكين لجريان النهر , فامتلأ بتلك الرائحة القديمة , رائحتها , والتي ما لبثت انّ تصاعدت نفّاذة من اغوار الماضي , فتساوت النهارات في صعود الرائحة واحتشدت في بؤرة متوهجة , تكاثفت عندها كامل الذكريات في تدفقها المتلاحق , لتصب في ذلك المنفذ المشرع على وجهها .. وجهها الذي بدا كأنه يسيل بياضا يتحلب في اعماقي .. لم اقل شيئا , وجدتني امشي بخطوات ناعمة , كأني امشي على حافة حرجة من الذكرى !! بيد إني سرعان ماعدلت . خذلتني خطواتي والذكريات .. !! في اللحظة التي كدت اهتف بها . تراجعت .. كان شيئ ما . اقوى من الذكرى , يلجمني , ويحيل بيني وبينها .. ! , وفي لحظة ما , شديدة السحر والدهشة , لمحت عينيها الحالمتين تتحرّران من شرودهما . اظن انها لمحتني على نحو ما , او هكذا كان يخيّل ليّ , . كانت نظرة خاطفة عابرة , هجستها مرّت على وجهي مثل غيمة دفعتها الريح , فاوشكت انّ اومأ , اليها .. ولكني لم اجرؤ . فمكثّت عيناي تبحثان عن استدارة اخرى من رأسها . . يقينا انها لم تتعرّف على ملامحي التي غزتها غضون شيخوخة مبكّرة , .. فالسنوات التي وقفت كحاجز بيننا , كانت كفيلة بان تحيلني إلى محض ذكرى شاحبة , عالقة في ذاكرتها . هكذا كانت تذهب بي الظنون الممعنة في المغالاة المسرفة ! .. تلك الظنون القديمة والتي غالبا ماتكون نتاج افكار مضطربة واوهام ..لا ادري كيف كانت تتنامى في ذهني .. وتنعكس على هيئة التماعات مخيفة تتموج في في عيوني !! تنضح كراهية مريعة .. ما زلت اتذكّر ملامحها وهي تشيح بوجهها عني حالما تلمح ذلك الخيط المشّع ريبة ينبجس من نظراتي التي تكاد تفتك بها ! .. لن انسي دموعها وتضرعاتها النابضة بالرجاءات وهي تطلب اليّ انّ امسح غبار الشك عني , .. كانت تؤكد ليّ مرارا , انّ هذا الشك القاتل الذي يتنامى لديّ باستمرار سيأتي على كلّ الوشائج التي تصل بيننا , فكنت الوذ بالصمت , احتمي بجدار من الخوف والقلق ! .. شك لا ادري من اي المصبّات ينبع .. من اي مجرى يتدفق , غامرا تلك الاشراقات المضيئة في داخلي بغيوم داكنة من الظنون والظلام ! ..
• هل يمكن للحظة شك , انّ تحدّث هذا الشرخ العميق في جدار من الحبّ والحنين والجمال .. جدار من الالفة والتوق شيدّناه معا , استغرق زمنا طويلا من اللهفة والودّ والعذوبة .. لا ادري كيف تسلّلت رياح الشك الى نافذة قلبي .. كنت اقاتل ذلك الشك بضراوة لاهوادة فيها وكأني اقاتل وحشا يروم الفتك بي , .. كنت ابكي بصمت وانا اراها تنأى عني . ولاوّل مرة بعد سنوات طويلة من المعاشرة من المعاشرة , اسمعها تطلب اليّ الانفصال . كانت ذلك مفاجئة مهوّلة مفعمة باليأس واللاجدوى , مفاجئة مريعة اطاحت باحلامي , فلم اصدّق حتى وانا انصت اليها بكامل قواي ! انصت لكل ما يرد على لسانها . فلبثت انظر اليها ذاهلا , فالمح عينيها تتموجان بفصوص من دموع , دموع تلتمع كرقائق بلورية . دموع اباحت بكلّ شيء ! . فمكّثت مسمّرا لا ابدي حراكا , اتطلع إلى وجهها الحافل بامارات التعاسة واليأس , فبدت ليّ في تلك اللحظة المليئة بالحزن والخوف . مخلوقة غريبة ! . مخلوق خرج على نحو غامض من بدن وروح زوجتي !! وقفت دهشا حيال نظراتها الشديدة الحزن والغموض والذهول . بدت عيناها في تلك اللحظة المشحونة ..تشعان نورا فاترا مخيفا يشي بالجفاء . فوجدتني في تلك اللحظات المتخمة بالقسوة والقلق والخوف استغرق في مجرى من النشيج .. ولأوّل مرة اشعر بالضّياع والتيه .. عند حلول اوّل المساء تأبطت حقيبتها وغادرت بصمت دون تلقي نظرة حتى , فيما كانت نظراتي المترعة بالحزن والدموع تشيّعها بصت , لم اكن اسمع في ذلك الوقت الملغوم بعاصفة من الغياب القادم في الطريق , سوى وقع خطواتها وهي تشق طريقها نحو الغياب والجفاء , ولما تلاشت قامتها وتوارى اخر ملمح منها , شعرت برغبة لا تضاهى للصراخ ! , وشعرت باني بت وحيدا اقف على حافة هاوية من العزلة والضّياع ولأوّل مرة اشعر بقسوة الوحدة وكم هي مخيفة بصمتها وعزلتها . الوحدة والغياب والفراق , والعزلة التي خيّمت بظلالها مع اوّل خطوات الظلام , الظلام الذي غمر فضاء الغرفة فاشاع الفراغ والوحشة . الوحشة التي جعلت تنتشر في الظلام والصمت . فرأيتني اهوي بكامل خذلاني وخيبتي وبدني على السرير دافنا وجهي في الظلام , لا ارى وسط الظلمة الشاملة سوى طيفها يمرق في خيالي في طواف متصل .. امسيت غريبا وحيدا اخوض في زحام الظلام ! . اسعى جاهدا لأخماد جذوة الاحساس بالظلم والقسوة .. فاتوجه إلى بقايا من مخلّفاتها التي تركتها في الدولاب , فاتوغل بعيدا في رائحتها التي جعلت تضوع من آثارها ولمساتها .. فتختلط عليّ الرؤى فاجدني منقادا لطيفها . فيلوح ليّ وجهها المسرف في الجمال , فاجدني اندفع ناحيتها واتحسس باصابعي ذلك التورّد المدهش الطافح من خدودها . فاجدها تسبقني لتطوّقني برفق عبر ذراعيها , ساندة رأسها المؤطر بشلال اسود من الشعر الطويل المحلول المنسفح على كتفي , كان همسها يرف في اسماعي مثل حفيف الفراشات !. همس كأنه يأتيني عبر منافذ بعيدة , فاجدني مشدودا إلى رائحتها , فتأخذني إلى صدرها النافر , واصابعها مطبقة على يدي في اضمامة حانية تنضح توقا . ولما رفعت رأسي عن الوسادة وجدتني مغمورا بالظلام , فضغطت زر المصباح فاندلق النور انهمر غزيرا , فرأيتها فجأة تطفو في النور المسفوح على قامتها , فبقيت اتطلع ذاهلا . فتجتاحني غيبوبة مشوبة بحمى , جعلت تدب في اطرافي .. ! ولما ادنو اليها , وامدّ يدي في النور , فترتطم اصابعي بزجاج المرايا , فارتد مذعورا , حالما اراني واقفا في المرآة بشعري النافر .. اراعني وجهي الغائم بملامحه الحزينة , فاعود ارتمي ثانية على السرير , مهدودا خاويا , لا ارى سوى طيفها يحلّق في ذاكرتي ..
• مرّ زمن طويل على ذلك المساء , المساء الذي ما زالت ملامحه عالقة في ذاكرتي , المساء الذي بات ذكرى شاحبة اخمدت وهجها السنوات .. ذكرى يوقد جذوتها الحنين في اوقات متباعدة , وكلما لاح لعيوني اثر من تلك اللمسات الحميمة التي تركتها مطبوعة على الاشياء المحيط بعزلتي ..
• والآن لم تكن المسافة الفاصلة بيننا طويلة . ليس بيننا سوى ذلك الفضاء المشغول بخضرة الاشجار وبالذكرى وبحرائق كلّ تلك السنوات . سنوات الغياب التي وثبت من ذاكرتي , لتحتشد كلّها بكامل لوعاتها في ذلك الفراغ الاخضر المفعم برائحتها ورائحة الاشجار والنهر والذكريات . الذكريات وهي تتدافع محمومة تتدفق عبرمنفذ ناء , في مجرى السنوات الغاربة .. قبل انّ اتوجّه اليها هناك عند الشجرة , رأيت رجل يقودها من ذراعها العارية . يقتفي اثرهما طفل , يجري في الفراغ الاخضر المتنامي عند الشاطىء
_____
*قاص من العراق

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *