*أحمد فاضل
( ثقافات )
توج الشاعر العراقي يحيى السماوي تجربته الشعرية التي بدأها منذ سبعينيات القرن الماضي بديوانه الأخير ” اطفئيني بنارك ” الصادر عن دار تموز للطباعة والنشر بدمشق وبواقع 162 صفحة من القطع المتوسط ، هذا التتويج الذي نتحدث عنه أخذ مسارا واحدا في تعريف قصائده ال 22 أنها تحدثت عن الحب ولا غيره وهو ما شكل اضافة أخرى لعديد قصائده في هذا الجانب ، لكنه – أي الديوان – حمل لغة شعرية حداثية مغايرة لما درجت عليه دواوينه السابقة وهو برأيي انتقالة أخرى في تجربته الشعرية التي أحتفظ برأي الناقد الجزائري الدكتور عبد القادر عبو كلما قرأت عن محاولات مماثلة حيث يقول : ” إن النص الشعري المعاصر أول ما واجه في بداية تشكله وارتسامه خروجا عن مألوف الشعر العربي مسألة اللغة عندما اصطدم بقوانينها المتوارثة وبتقاليدها الممتدة في مسار القول الشعري بدءا بالنظرة الجديدة للغة الشعرية بوصفها لغة لازمة وظيفتها الخلق أي أنها لغة تكتفي بذاتها وبعناصرها تبني عالما شعريا جديدا لم تعهده من قبل عناصره الأولية تمارس لعبتها اللغوية من وحدة الأضداد ، هذا من جهة ومن جهة أخرى وظيفتها تكمن بالدرجة الأولى في السحر والإشارة فهي لغة لا تبوح ولا تصرح ، لغة الغموض والتأويل أي أن وظيفة الشعر هي الخلق لا التعبير وإذا كانت اللغة هي مسكن الوجود على حد تعبير هيدغر فإنها انفتاح على الكائن وإمكان الوجود ، بها يرتحل الإنسان من العجمة إلى الفصاحة، ومن المألوف إلى الجمالي، ومن الدال إلى المدلول وبها يعدو النص الشعري إمكانا ينفتح على أكثر من تأويل ينتج خلاله التعدد والاختلاف ، ولهذا فإن التأويل ليس العودة إلى الأوليات بل هو اختلاف راجع بالدرجة الأولى إلى طبيعة الشعر نفسه الذي هو دلالة لا تحصر ومعنى لا يضبط . ”
فقصائد السماوي هنا تمثل الذات في المشهد المعاش وهو احتفال تعايشت معه اللغة مع الأخيلة الشعرية لتنتج لنا وبلهجة غير تقليدية أبياتا تنبض بالواقع دون تورية شكلت القوة المعنوية والأدبية لها ، مع أنها حملت في بعضها رفضا نكاد نتلمسه فيها ما أعطى معنى أخر يتحمل التأويل في توازن ربما يعكس خياراته تجاه ما يعنيه كما في قصيدته الأولى ” عيناي نائمتان .. لكن النوافذ ساهرة ” التي سنتناولها هنا لتنوب عن بقية قصائد الديوان بسبب كونها فاتحته التي وضعها السماوي لتتمدد بعدها بقية قصائده حاملة معها لغة الحب وإن اختلفت بالمعنى والمقصد ، يقول فيها :
هاجرت وحدي
حاملا بعضي معي ..
وتركت بعضي في ملاذك لائذا
خوفا عليّ
من احتمال اللارجوع
إلى ظلالك ..
فالطريق معبد بالجمر
ترقبه الضباع
وما تبقى من سلالة ” أخوة الصديق يوسف “
والذئاب الغادرة
هنا استخدم السماوي ” الإشارة المضمرة “التي تتكرر في قصائد الديوان الأخيرة في محاولة منه إشراك المتلقي في البحث عن معنى القصيدة ، وهي لعبة حاذقة تتطلب مهارة عالية في وضع مفاتيح عدة أمامه بدأ ” بالمرأة المخاطبة ” وانتهاءا “بكهف المتاهة ” ، هنا أصبحت القصيدة جزءا من تلك اللعبة التي قلما مر عليها الشعراء بهذه الحنكة والدراية برأيي :
أوكلت أمر سفينتي للموج ..
والريح الغضوب وللدجى..
عيناي نائمتان
لكن النوافذ ساهرة
فخذي بأمر خطاي ..
ها أنذا أتيتك
رافعا قلبي على ضلعي
أسيفا..
خاشعا..
مستسلما ..
تعبت خيولي من حروب متاهتي..
كل المعارك خاسرة
إلا انتصاري
حين يقتلني هواك
فألتقيك
على سرير من زهور التين والريحان
أرفل بالزبرجد ..
أستظل النخل
يوم الآخرة
الأبيات هنا تذهب بالتمدد بعض الشيئ قبل أن تتوقف على المقصود المتواري فالسماوي في حالة كهذه يستفيد من كل تاريخه العاطفي والإنساني والنضالي ، وهي جميعها أراها حالة احتجاجية لواقع مؤلم وظف فيها صفحة من صفحات حياته ومستثمرا بذات الوقت كل فضاءات تلك الصفحات كباعثة حميمية لكتابة هذا المشهد الشعري الذي يقول عنه الناقد علي الراعي وهو يستعرض بالنقد مجموعة الشاعر السوري أمير مصطفى ” الطابق الأخير ليس شاغرا ” الصادرة عن دار بعل في سوريا العام الماضي مستندا على رأي أحد النقاد : ” أنها إحدى ظواهر القصيدة الحديثة التي أنتجت خلال عقد التسعينيات وما تلاها ، فقد أسماها الناقد هايل محمد الطالب بالمغامرة اللغوية والخصوصية الشعرية ، وذلك من خلال مخاتلة اللغة ومفارقاتها والتي غالبا ما تذهب باتجاه السرد على حساب الحساسية الشعرية أو على حساب العاطفة ” ، فأبيات قصيدة السماوي ” عيناي نائمتان .. لكن النوافذ ساهرة ” تذهب نحو ذلك من المراوغة والتجريب اللغوي على ما ذهب بمثلها الراعي في نقده لديوان أمير مصطفى لنصل إلى :
لملمت أطراف اللذائذ ..
والمسرات ..
الجمال ..
بعيدها وقريبها ..
وطريفها وتليدها ..
ودنيئها والطاهرة
فوجدت
أن ألذها كان
احتراقي في مياهك
وانطفاؤك في لهيبي ..
واكتشفت خطيئتي
كانت صلاتي
قبل إدماني التهجد في رحابك
كافرة
قد يستغفر القارئ للشاعر وهو يلوم روحه أن ما سبقتها من صلاة كانت كافرة ، هنا نقترب من لعبته التي ابتدأها في أبياته الأولى لنكتشف أن مقصوده ” الصلاة ” هي غيرها التي نظنها ، إنها صلاة المحبين التي قال عنها الشاعر الإمارتي مانع سعيد العتيبة :
سعاد
أخبري من عن هوانا سائل
أن هذا القلب محتاج لنبض
أنا إن غادرت دنيا حبنا
فالهوى عهد سيبقى دون نبضي
وإذا حانت صلاة
فاجمعي بعض دمعي
وتوضي
طهر الدمع ذنوبي كلها
وسقى أرض المحبين وأرضي
ونمضي الهوينا في قراءة بقية هذه القصيدة الرائعة التي تفاجأنا أن مفهوم الحب الذي عايشناه بدايتها قد أخذ معنى آخرغير الذي فهمناه ، هنا نقترب أكثر من المخاتلة الشعرية التي نكاد نظفر معانيها القصدية :
وعرفت
أن جميع آلهة المدينة
والدعاة إلى الصلاة
سماسرة
والقائمين بأمر أرغفة الجياع
بدار دجلة والفرات
أباطرة
أنقذتني من شر نفسي
فانقذيك الآن مني ..
رب مأسور أثيم
يدخل الفردوس طفلا
حين يعبد آسره
هذه المعاني أشعر بقوتها وهي تنضح ألما لأن صوت السماوي لم يكن خافتا أبدا في جميع ما كتبه من شعر ، فالوطنية والوجدان والحزن والفرح والعشق والحب والحرب والمفاخرة أعطاها جميعا طعما مشحونا بالدلالات ، لم يكن مقلدا لأحد وهو يعيش القصيدة التقليدية التي قدم الكثير منها منذ ديوانه الأول ” عيناك دنيا ” ، ومع أنه انتقل إلى قصيدة النثر التي تعني لديه أنها ثورة في حد ذاتها وانقلابا على المألوف الشعري ، لكن حنينه كان يشده دائما إلى القصيدة العمودية معارضا أغلب من طلقها إلى قصيدة النثر من الشعراء وهم كثر :
أنا ضائع من ألف عشق
فابحثي عني بواديك المقدس ..
أرجعي للطين نبضا
والبصيرة للبصير ..
وللأزاهير الرحيق ..
وللذي ألقت به اللذات في كهف المتاهة
عنفوان الذاكرة
الأمس ولى ..
أشمسي للمستجير بنور عشقك
كهف غربته ..
ليبصر حاضره
الأبيات الأخيرة من القصيدة تفك مغاليقها لتعلن أن شاعرنا وبعد أن مر بكل ذاك الوجد والألم ، الهجرة والخوف من اللارجوع ، الخيانة والغدر ، السفر والريح الغضوب ، العيون النائمة والحواس الساهرة ، الاستسلام في حضرة من أحب ؟ التجربة الطويلة التي تعرف من خلالها على اللذائذ والمسرات ، الجمال ، الدناءة والطهر ، وجد أخيرا أن احتراقه في مياه من أحب لذة ، وانطفاءه في لهيبها ، مكتشفا بذات الوقت أن خطيئته كانت صلاته قبل أن يدمن التهجد باسمها كان كفرا بواحا :
فرب مأسور أثيم
يدخل الفردوس طفلا
حين يعبد آسره
ها هو أخيرا يبصر حاضره بعد أن نادى بكل قوة :
الأمس ولى ..
أشمسي للمستجير بنور عشقك
كهف غربته ..
ليبصر حاضره
” أطفئيني بنارك ” لايمكن أن تستوعبه الصفحات وكل ما قلناه عن قصيدة واحدة فيه قليل فكيف إذا ما تناولنا قصائد مثل : كذبت نفسي كي أصدق كذبها ، البشيرة ، شمس عمري ، محاولات فاشلة ، إسراء نحو فردوسها ، قديسة الشفتين ، أنجديني ، نسغ ، هيام ، كذبت عليك .. كذبت عليّ ، الوصول إلى اليابسة ، توغل ، أربع خرزات من طين القلب ، رغيف من الشبق على مائدة من العفاف ، موعد ، إفتضاح ، ضجر ، قبعة ، كل وما جبل عليه ، باقة نبض ، تفاحة ، هن قصائد الديوان قطعة من دم ولحم الشاعر يحيى السماوي الذي أسكنها حبه ليكون شعرا مطيرا يتنزل علينا فيأخذنا من خلاله بلل يشفي الجراح ويضمد الأحزان ..