” من الصعب أن تكون إلها ” : فيلم روسي يصور الحضيض البشري




كفى الزعبي *


خاص ( ثقافات ) 
بعد أن استمر العمل عليه قرابة الأربعة عشر عاما، تم أخيرا عرض الفيلم الروسي” من الصعب أن تكون إلها” للمخرج ألكسي غيرمان، الذي توفي في شباط عام ٢٠١٣، أي قبل عام من عرض فيلمه على شاشات السينما العالمية، وقد تم العرض الأول للفيلم في مهرجان روما السينمائي، وبعد العرض منحت لجنة تحكيم المهرجان، المخرج المرحوم غيرمان، جائزة خاصة، عن دوره في تطوير السينما العالمية، استلمتها أرملته، سفيتلانا كارماليتا، التي ساعدته في هذا العمل . ويجدر القول إن المخرج غيرمان تميز بأخراج أفلام صعبة، لا يتقبلها المشاهد بسهولة، ينجزها على مدار سنين، وتتسم باللقطات التي تنطوي على مستويات مختلفة من المشهد، أي إنه يمكن رؤية مشاهد عدة في اللقطة ذاتها. وبالعودة لفيلم ” من الصعب أن تكون إلها ” فيبدو لي أن أهميته، لا تأتي من ميزاته الفنية التي تخص الشكل والمضمون، بقدر ما تأتي من الفترة الزمنية الطويلة التي انتج فيها، والتي رافقتها ضجة اعلامية روسية هيأت المشاهد، وعملت على إثارة فضوله وتشويقه طوال تلك المدة، فراح المشاهد ينتظر فيلما عظيما . لكن للأسف غالبية المشاهدين الذين انتظروا هذا العمل سرعان ما أصيبوا بخيبة شديدة، بل أن الكثير منهم لم يحتمل مشاهدة الفيلم الطويل ( فمدته ٣ ساعات ) حتى نهايته وخرج من قاعة السينما كأنما هاربا من كابوس. أنا كنت واحدة من الذين أصروا على مشاهدة الفيلم حتى تعلن النهاية، ليس بسبب استمتاعي بالعرض، بل لأنني كنت أريد أن أفهم موضوع الفيلم بالمعنى الدرامي، كنت أنتظر اللحظة التي سيطرأ في مشاهده تغير ما، أترقب حدوث شيء ما…أي شيء..أي حدث مهم. في الحقيقة لم تقدم لي الثلاث ساعات أي حدث مهم، أو فعل، أو معلومة أو فكرة جديدة تزيد عن المعلومة التي قالها صوت راو في بداية الفيلم ( راوي اختفى وترك المشاهد يتخبط عاجزا عن فهم شيء لأن الفيلم ذاته عجز عن توضيح أي شيء ). ما قاله الرواي في بداية الفيلم هو أن بطل الفيلم، وهو عالم في معهد للابحاث التاريخية يجد نفسه ، وبطريقة ما ( غير مشروحة ) على كوكب آخر ، اسمه اركانار . أهل هذا الكوكب هم بشر أيضا، لكنهم لا يزالون يعيشون في القرون الوسطى، أي ما قبل عصر النهضة. حينما يصل إليهم البطل يتعاملون معه على أنه ابن إله…وبالتالي هو إله. ويفترض من هذا الإله أن يظل مراقبا للأحداث من دون التدخل بها، لاسيما اذا كان الفعل دمويا. عند هذه المعلومة التي نسمعها في بداية الفيلم من الراوي يكاد مضمون الفيلم، أو تكاد قصته تتوقف، ذاك أننا لا نرى القصة من جانبها الدارامي، لا نرى صراعا، لا نرى تطورا في الأحداث. ثم إن البطل – الإله يتدخل في نهاية الفيلم في الحدث الدموي ويخوض معركة مع أناس ما، من دون أن نحصل على مبررات ( يقدمها الفيلم وليس الراوي ) لماذا لا يجب عليه أن لا يتدخل، ثم لماذا تدخل. عدا تلك الأحداث السريعة ، غير المبررة دراميا التي يمر عليها المخرج مرور الكرام، أكاد أجزم أن كل ما نراه هو مشاهد فنية تغرق في وصف القرف والقذارة والوحل والطين والاضطهاد والاباحية المقززة. لا أقول ذلك بمعناه المجازي بل بمعناه المباشر. الفيلم بالأبيض والأسود… مع أنني أتحفظ على ذلك، لانه في واقع الأمر بلون واحد: الرمادي، حتى الأبيض والأسود غير موجودين كلونين. أما الأماكن التي تتحرك فيها الشخصيات فهي ضيقة ورمادية لا يكف المطر يهطل فيها مدرارا على نحو يخنق المشاهد، والأرض قذرة وموحلة تغطس فيها أقدام الذين يسيرون عليها، بل إننا لا نلمح فرقا جوهريا بين الشارع والأماكن المغلقة، فكل الفضاءات لها نفس السمات: رمادية قذرة خانقه مزدحمة بشتى الأشياء والكائنات ، الأحياء منها والأموات: دجاج ، كلاب حية وكلاب نافقة، مشنوقون معلقون، عبيد يسيرون بأصفادهم، عراة ، طعام كريه الشكل، وحل وطين تختلط به كل صنوف القاذروات، أشياء ( وربما أشلاء !) تتدلى من كل سقوف الأماكن المغلقة: لحوم مجففه، أحذية، أواني قذرة، أسمال وملابس رثة…الخ. ثم أنه يصعب تحديد سمة الأماكن، إن كانت مطابخ أم غرف نوم مراحيض، لأن كل النشاطات تجري معا في المكان ذاته، المكان المزدحم الضيق الخانق، الرمادي الرطب القذر التي تفيح منه الروائح. حيث يتغوط أحدهم، في حين يمارس أخر الجنس، في حين يتشاجر آخرون فيما بينهم، بينما آخرون يأكلون . أما الحوار فهو ليست بالكلمات بقدر ما هو بالبصاق، فجميعهم يبصق في وجه جميعم. على مدار اللحظة هناك من يتلقى بصقة في وجهه. فضلا عن ذلك جميع شخصيات الفيلم الرئيسة والثانوية، قذرة بشكل مقزز، وجوهها قذرة، ملابسها قذرة، جسدها قذر، أيديها قذرة. شخصيات لا تكف تنظف أنوفها وتستخرج منها المخاط ( لأكثر من مرة كدت أتقيأ! ) وهناك من يدلق النفايات ( تبدو مثل قشر السمك اللزج ) على مشنوقين لا يزالون معلقين وجثثهم متفسخة، وأذا ما لمس أحدهم جثة ما أخرى ملقاة ( فالموتى على هذا الكوكب لا يدفنون في الإرض بل يتعفنون تحت المطر الأبدي ) فستنزلق منه احشائه بطريقة لا يراها المشاهد فحسب بل يكاد يشم رائحتها العطنة ويشعر بلزوجتها… مشاهد الجنس تبعث على الغثيان، مشاهد الموت تبعث على الدوار، كل شيء في الفيلم، كل مشهد، كل لحظة ، كل لقطة لها مهمة واحدة وقد أدتها على أكمل وجه: تصوير الحضيض المقرف ، الحضيض الرمادي القذر والمقزز، لدرجة لا يعود فيها محتملا. وهذا ما حدث فعلا، فقد كان المشاهدون ينسلون واحدا تلو الآخر من هذا الكابوس. في هذا الفيلم يتلقى المشاهد صدمة تحدثها لديه الشناعة والبشاعة المكثفتان. صدمه يظل يتلقاها وتظل تصعقه من اللحظة الأولى ، التي يبدأ بها الفيلم، وحتى اللحظة الأخيرة . من المفهوم إن الفن ليس منوطا بعرض الجمال فقط ، لكن عرض الجمال، فقط ولا شيء غير الجمال، يجعل العمل الفني مبتذلا لا يتجاوب مع شروط الموضوعية، مع أنه في كل الأحوال لا يسبب للمشاهد ذاك الأثر النفسي السيء ! ومن هنا يبدو أن عرض البشاعة، فقط ولا شيء غير البشاعة، لا يبدو أمرا موضوعيا، فضلا عن الأثر النفسي المرضي الذي يتركه لدى المشاهد. لكن لو غضضنا البصر عن ذلك وقلنا إن المخرج أبدع في تصوير قتامة فترة العصور الوسطى، ولو بررنا هذا العرض المكثف للحضيض، مفترضين أن رسالة الفيلم تكمن هنا بالذات: تصوير تلك المرحلة التاريخية من أشد زواياها شناعة وبشاعة، بل ولو تجاوزنا ذلك إلى ما هو أبعد، أي إلى الجانب الرمزي لهذه الرسالة. أقصد نقد الواقع والحاضر الإنساني الآن، الذي أراد المخرج أن يقول لنا إنه، أي هذا الحاضر، لا يختلف عن العصور الوسطى من حيث جوهر البشاعة، فلا يزال الناس يتقاتلون، ويبصقون في وجوه بعضهم البعض، مجازيا. لا يزال يستغل الواحد منهم الآخر. لا زالوا متوحشين وعدائيين و متسلطين وقذرين، حتى لو كانوا في الشكل غير ذلك: يبتسمون لبعضهم البعض ويخاطب الواحد منهم الآخر بلطف ويرتدون الملابس النظيفة، ويعيشون في بيوت نظيفة ويأكلون من الأواني النظيفة، فمقابل هذه النظافة ثمة قذارة لا مرئية لكنها محسوسة على كل الأصعدة. حسنا، حتى لو افترضنا أنها هذه الرسالة هي رسالة مهمة وعميقة، يظل السؤال بخصوص الشروط الأخرى للعمل الفني، قائما: الشروط التي تخص البناء الدرامي والصراع وتطور الأحداث ! كل ذلك كان شبه غائب. وهذا هو المأخذ الكبير والأساسي على الفيلم. إنه فيلم من دون قصة. مجرد تكثيف مرهق للسوداوية ، في امتداد أفقي للحدث ، نادرا ما ينحرف باتحاه التطور العمودي. فقط في نهاية الفيلم يقرر بعض تلاميذ البطل ( من دون أن نفهم متى وكيف أصبحوا تلاميذه ) السفر إلى الأرض، أما البطل فيرفض العودة معهم، يقرر البقاء على ذلك الكوكب حيث الزمن لا يزال القرون الوسطى ( الأرضية ) . لكنه يطلب من رفاقة في حال كتبوا عنه االكتب ، أن ينقلوا عن لسانه جملة: من الصعب أن ينتج في يوم ما عن اللون الرمادي لون آخر غير الأسود …ثم يستوقفهم ويطلب منهم أن يضيفوا: اكتبوا أيضا- من الصعب أن تكون إلها! لعل المخرج تعمد أن يمحو القصة ويكتفي بالمشاهد؟! لا أدري، لكن ما خطر ببالي حينما خرجت من قاعة السينما وتحت تأثير ما رأيت وكنت لا أزال أشعر بالغثيان، أن
” ليس من الصعب أن تكون إلها ” بل ….كم من الصعب أن تكون إنسانا!
* روائية أردنية تعيش في روسيا

شاهد أيضاً

غرناطة ..آخر الأيام: مسلسل الكاتب وليد سيف الجديد

(ثقافات) غرناطة ..آخر الأيام: مسلسل الكاتب وليد سيف الجديد زياد أحمد سلامة    “غرناطة…آخر الأيام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *