*توفيق الشيخ حسين
( ثقافات )
رواية ” أطفال الندى ” للروائي محمد الأسعد عام 1990 جاءت بعد أثنين وأربعين عاما ً من نكبة فلسطين عام 1948 …
محمد الأسعد كلاجئ فلسطيني يغوص في أرضية القضية الفلسطينية مع قريته ” أم الزينات ” .. سيطرت عليه هموم اللجوء والتشرد .. الابتعاد عن الوطن ترك أثارا ً واضحة في نفسيته والتي انعكست بوضوح في روايته ” أطفال الندى ” …
” محمد الأسعد ” هو الأديب الفلسطيني الذي شهد الهجرة الكبرى في فلسطين وهو في سن الرابعة .. عاش عذابات ومرارة التهجير في قريته ” أم الزينات ” الفلسطينية .. لقد مزقت رياح التشرد بالأسعد وأهله وألقت بهم على كثبان الرمل في صحارى الغربة إلى جنوب العراق …
الرواية تقوم على تصوير الأحداث والشخصيات والإنسان الفلسطيني وارتباطه بالأرض وما يعانيه من الألم والمعاناة .. وقد تـُرجمت هذه الرواية إلى عد ّة لغات
( الفرنسية والبرتغالية واليونانية والعبريـّة ) …
حمل حقائب الطفولة وسار تحت جنح الليل عبر أصوات الرصاص الذي دخل إلى مساحات روحه كطفل لديه صور ضبابية في ليلة 15 مايو 1948 ..حين وجد نفسه يسير مع أمه وحيدين تحت سماء ٍ سوداء يخترقها رصاص ٌ أحمر .. مع أناسا ً كثيرين ضائعين ينادي بعضهم بعضا ً تحت ضباب ذلك الفجر ..
اللاجئون المهجرون وحدهم الأقدر على وصف النكبة وهم القادرون على أبراز الحقيقة …
( لقد ولدت ماشيا ً على قدمي إلى جانب إنسانة مجهولة أو ولدت لأول مرة سائرا ً تحت ليل ٍ ما والرصاص جمر ٌ يتتابع في السماء ) …
كان من نتائج النكبة ضياع أو سلب غالبية الوطن الفلسطيني التاريخي أي ضياع عشرات القرى والمدن وتوزع أبنائها على العديد من المنافي العربية والأجنبية .. ومن بين هؤلاء الأبناء العديد ممن أصبحوا روائيين فيما بعد .. بدأ أكثر من روائي فلسطيني إعادة بناء تلك المدن الفلسطينية المسلوبة ولكن في أعمال روائية بعد أن تعذر معايشتها والحصول عليها أو إعادتها من سالبيها بعد عدة عقود من تلك النكبة .. الرواية في مجملها عمل تراجيدي .. أشخاصه منقوعين في تربة المأساة فالقهر هو عصب المأساة التي يحياها أشخاص الرواية حتى النخاع .. فالرواية ذات أسلوب روائي جديد يحمل الأسعد تجربته في الحياة ونظراته إلى الكون ..
في لقاء مع الروائي ” محمد الأسعد ” بخصوص الرواية حاوره ” خالد سعيد ”
يقول الأسعد :
” أطفال الندى .. لها قصة بالغة الدلالة على ممارستي للكتابة .. لم أكتبها لأنني أ ُريد كتابة رواية أبدا ً بل لأنني صحوت فجأة على سؤال .. في ذلك اليوم أنهيت قراءة كتاب لفلسطيني ” وأنا فلسطيني بالمناسبة ” يتحدث فيه عن الفلسطينيين قبل الشتات فوجدته يأتي على ذكر أناس من ” القدس وحيفا ويافا وعكا ” ولكنه لا يأتي على ذكر أحد من أهلي أو من الذين ظلت أسماؤهم تتردد على لسان أمي طيلة أكثر من خمسين سنة حتى وفاتها .. وتساءلت لماذا لا يذكرهم أحد ؟ هل هي أقل أهمية من الأسماء الشهيرة التي كرس لها صاحب الكتاب كتابه ؟ من هنا بدأت أكتب اعتمادا ً على ما سمعته من أخبار وحكايات من أمي وأبي وأخواتي وكل من نعرف ” …
يبقى المكان محفورا ً في الذاكرة أما الأشخاص فتتغير بتغير الزمن فلا يبقون في الذاكرة بل يرحلون وكما عبر ” غوستاف باشلار ” :
” أي أداة غريبــة هي الذاكــرة “
أسطورة الزمان تجرحنا وطيب المكان فيه ألق من السحر .. من هذا التأريخ لم يتوقف الفلسطيني عن التذكر سواء كان يعيش في منفاه في الداخل أو في منفاه في الخارج .. وحمل جيل التشرد الأول فلسطين في أعماقه ونقلها إلى أبنائه وهؤلاء إلى الأحفاد .. ويكفي أن يحاصر الفلسطيني في تسمية ” اللاجئ ” حتى يظل يشعر باختلافه عما حوله …
الذاكرة هي التي تمنح الفلسطيني البواعث الكافية للموت والحياة .. وهذا ما عبر عنه الراحل ” غالب هلسا ” حين قال :
” رواية ذات فرادة في لغتنا العربية لأن موضوعها الذاكرة العربية الفلسطينية فقط .. تكشف محتوياتها وتقنياتها ما يميز الفلسطيني ويحد ّد هويته ..الذاكرة هي التي تحافظ على المكان والتأريخ .. وبالتالي على الوطن .. افتقاد الذاكرة يعني افتقاد الهوية وبالتالي الانتماء ” …
( كل هذه الطرق والأماكن يرتبط بالأحداث , ليس هناك مكان لا يرتبط بالذاكرة , بحدث ما .. ولو أتيح لنا أن نرصد تفاصيل الأحداث والأماكن عبر زمن يمتد إلى أبعد من جيل أوجيلين إلى مئات الأجيال لكانت من كل هذا ملحمة تشهد بأن التأريخ الإنساني موجز إلى حد كبير في كتب المعلومات والموسوعات ) …
الرواية واقعية وصادقة في الاستلهام والتصوير .. والأسعد صادق في الاستجابة والتعبير .. وكما قال الدكتور” عمر الطالب ” :
” الصدق وحده هو الذي يهب الفن قيمة الحياة والقوة في التصوير والتعبير ” ..
أن المجتمع والإنسان هما مصدر التجربة الروائية الواقعية الوحيد , ولا يمكن للعمل الروائي أن يكون واقعيا ً إلا إذا قام على أساس من تصور حضاري واجتماعي وتأريخي ونفسي موضوعي للمجتمع وللناس الذين يستمد منهم الكاتب الروائي تجربته الأدبية .. فالرواية إذن أكثر من أي فن أدبي آخر تستطيع أن تكون جزءا ً
من الثقافة القومية للشعب وان تلعب دورا ً في تشكيل هذا الثقافة …
يقول الدكتـور ” احمد أبو مطر ” :
” أن سيطرة الاتجاه الواقعي على غالبية النتاج الروائي الفلسطيني من بداية الستينات حتى الآن , تؤكد أن الأديب الفلسطيني الروائي بالذات , أدرك الجدلية القائمة بين الأدب والحياة .. وأن الأديب محصلة لعلاقاته الاجتماعية ولا يمكنه الفرار منها أو الانعزال عن تأثيراتها خاصة في الظرف الفلسطيني ” …
يقول ” محمد الأسعد ” في لقاء مع صحيفة برتغالية ” دونوتكياس ” أجرى اللقاء
” فيتور بنتو باستو ” لكتابته عن قريته الفلسطينية المندثرة عندما اجتاحتها العصابات الصهيونية المسلحة ” الهاغاناه ” وقتلت معظم سكانها وهدمت بيوتها وأقامه لها دولة فوق أرضها وبدأت تتمدد لتلتهم كل فلسطين …
” أنها رواية تتكون من أشياء كثيرة : انطباعاتي كطفل وما سمعته من أمي التي قضت معظم حياتها تروي قصصها عن القرية وأهلها .. زواجها وأطفالها .. يومياتها وهي تتحمل مسؤولياتها .. وأبي وهو يكسب عيشه .. وتتكون أيضا ً ما سمعته من كبار السن وما أصبحت اعرفه في ما بعد خلال قراءاتي ودراستي والوثائق المنشورة وما إلى ذلك ” …
من أجل حماية التراث وترسيخ جذوره فأن الكتابة عن المدن والقرى الفلسطينية تعتبر إحياء وإعادة بعث لها بكل أبعادها لا سيما إذا استندت إلى الرواية الشفوية من الشيوخ والمسنين بكل ما في روايتهم من بساطة وصدق في التعبير والمعلومات نابع عن عشقهم وحبهم وارتباطهم الحميم بتراب الوطن وإنسانه …
( في أي الفصول نحن ؟ وفي أي الأزمان ؟ كل شيء يبدو كما لو انه كان خارج هذا العالم , حدث يوما .. ويحدث الآن .. وسيحدث غدا ً ) …
كان واضحا ً أن الموقف الاستعماري الانجليزي لم يكن بعيدا ً عن نشأة المنظمة الصهيونية من مؤتمر بال بسويسرا 1897م إلى وعد بلفور 1917م مرورا بقرار تقسيم فلسطين وصولا إلى النكبة 1948م ..
بعد خيانة بريطانيا وعودها للعرب بمنح الاستقلال لهم جاء وعد بلفور منعطفا تاريخيا وتتويجا ً لسياسة بريطانية عنوانها الهجمة على فلسطين وسقطت القرية تلو القرية والمدينة تلو المدينة مع اقتحام العصابات الصهيونية لقرى وقتل جميع سكانها .. لقد نجحت الصهيونية في الاستيلاء على الأرض وفصلت أهلها عنها ونفي أكثر من مليون فلسطيني عن قراهم ومدنهم وشتتهم في أنحاء الأرض فيما يمكن وصفه بالإبادة الجغرافية وأصبحوا لاجئين بلا وطن .. فالمجتمع الدولي هو المسؤول عن إذكاء وتشجيع ودعم الأطماع الصهيونية في فلسطين .. لكنها لم تنجح في القضاء على الشعب الفلسطيني الذي بقي حيا ولم يندثر كما اندثرت أمم قبله …
تروى قصة حدثت مع خال الكاتب القروي المسلح دائما والذي كان في عداد الرجال مع ثوار ” أبو درّ ة ” كان يعرف انكليزيا ً فذهب إليه ليعرف الحقيقة المُـرّة..
(ويبحث الانكليزي عن الكلمات المناسبة التي يمكن أن تصف لهذا القروي المسلح عمق مأساته .. انه أصبح بلا وطن .. وأن عليه أن يرحل ..
هذه قضية أكبر منك .. قضية دول .. لقد اتفقوا على كل شيء ولم يبق أمامك إلا أن ترحل ) …
تدفقت الجيوش العربية على فلسطين ونجحت في البداية تحقيق انتصاراتها حتى تدخلت القوى الدولية ووضعت قرارات دولية من قبل الأمم المتحدة لوقف القتال , وفرضت هدنة لمحاولة التوصل إلى تسوية سلمية .. لكن العصابات الصهيونية انتهزت الهدنة من أجل إعادة تجميع صفوفها والحصول على السلاح من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية .. لكن العصابات الصهيونية استؤنفت المعارك من جديد على جميع الجبهات حتى فرضت سيطرتها على مساحات واسعة من أراضي فلسطين التاريخية .. وتعرضت القوات العربية لسلسلة من الهزائم وانتهت المعارك باعتراف العرب بالهزيمة وتدخل حرب فلسطين التأريخ العربي تحت أسم ( النكبة ) …
يقول خليل ..
( وأكثر ما كان يحزنه حين يقص ّ كيف أن طرد اليهود من القدس كان أمرا ً محققا ً .. تقدمنا واكتسحناهم تماما ً , فطلبوا منا العودة إلى مواقعنا .. وحين رفضنا بدأت مدفعيتنا تقصفنا .. وقد قـُتل منا الكثيرون ) …
أيها اللاجئ أرحل إلى موتك .. فكل حي مصيره الموت , أنت حي وأنت تموت , وميت حين تستسلم , وتسلم لهم أجيالك كلها .. حتى الأفريقي البسيط أكتشف منذ أقدم الأزمنة أن قتل الأم الولود من أفظع الجرائم لأنه يعني قتل أجيال من الأطفال الذين كانت ستلدهم … فكيف هي جريمة قتل وطن …
وأخيرا ً يؤكد محمد الأسعد :
( أنا اعرف من أنا وأعرف وطني الذي اختطفته الأمم المتحدة وأعطته لغزاة مجرمين تجمعوا من كل الأقطار .. وكل هذا يمنحني القوة الكافية لمواجهة هذا العالم الذي يظل ظالما ً طالما لم يعترف لي بحق الوجود في وطني ) …