*منصف الوهايبي
كان بوبي فيشر لاعب الشطرنج الشهير، يعمد في كثير من الأحيان؛وهو في أوج اللعب، إلى ارتكاب حماقة لا تخطر على بال.وكان ذلك يربك خصمه الذي يشحذ ذهنه بحثا عن سبب ذلك، أو عن معناه؛لكن دون جدوى.وإذْ يخونه ذكاؤه، يكون فيشر، بحيلته هذه أو تحامقه، قد غنِم شوطا، وفاز على خصمه.
ويُروى عن مياموتو موساشي أستاذ الكاتانا والبوكان أو فن المسايفة أو المصارعة اليابانيّة ـ على ما في هذه الترجمة من قلق العبارة ـ أنّه كان يتعمّد أن يأتي إلى حلبة المباراة متأخّرا، في بلد اُشتُهِر أهله بالدقة والانتظام، وعُرفوا بأنّهم أمناء لمواعيدهم؛ وكان ذلك يثير غضب خصمه، فيفقد الكثير من طاقته، وتكون الغلبة لموساشي.وذات يوم وقد صار قدومه إلى الحلبة متأخّرا أمرا متوقّعا، وصل باكرا على غير عادته. وإذا خصمه، كمن جُرّد من سلاحه، تحت وقع المفاجأة. وكان من الطبيعي أن يفوز موساشي.
في لسان العرب: الحَمِقُ هو الأحمق وهو كذلك الخفيف اللحية. وليكن واضحا أنّني لا أقصد أيّا من رجالات النهضة من خفيفي اللحية. والحُماق: مرض يشبه الجدري. ويسمّي العرب الليالي التي يطلع القمر فيها من أوّل الليل إلى آخره، ب’المُحْمِقات’ إذ قد تكون بلا غيم، فتوهم الانسان أنّ الصباح قد طلع. وهناك التحامق والتحمّق وهو تكلّف الحماقة.. ولا ننسى: الاستحماق من استحمق: أي تكلّف الحماقة…
*يمكن اعتبار الحماقة وهي قلّة العقل أو فساد الرأي، ضربا من غلاظة الذهن كلّما تعلّق الأمر بالذكاء وهي لا تعني ضرورة انحسار الذكاء أو انعدامه، وإنّما الموقف الذي يتصرّف فيه شخص ما دون ذكاء منه. بل قد تكون الحماقة استراتيجيا خطيرة، في مواقف كثيرة. والاستراتيجيا تقوم على تعدّد الاحتمالات أو الأجوبة، فلا نختار أحدها إلاّ استدلاليّا أو بعديّا؛ أي على أساس ما يأتي من التجربة أو يستند إليها. ومن المفيد، في هذه الحال، أن لا نتعجّل الجواب قبليّا أي استنادا إلى مجرّد قبليّة سابقة للتجربة، فنتخيّر الجواب الذي يلوح لنا أكثر ذكاء، وإنّما ينبغي أن نختبر الأجوبة الأخرى التي يتهيّأ لنا أنّها الأكثر حمقا.
الذكاء كما يُعرّفه مارك جينسون، هو مَلَكَةُ الحفاظ على توازن حيّ بين ‘ذكاء’ و’حُمق’.
لكن ما الذي يمكن أن نقوله عن الحمق في مجال الذكاء الجَمعي؟ يجيب البعض بأنّ الأمر يتعلّق بالبلاهة أي ضعف العقل والعَيّ في الحُجّة. ولكن لا ننسى أنّ هناك من يتبالهُ: أي يُري من نفسه البَلَهَ وليس به. والبلاهة في السياق الذي نحن به هو أن يتصرّف الفرد دون ذكاء الجنس الذي ينتمي إليه.
إنّ القدرة على تصوّر أوجه عديدة لنفس المشكل هي إحدى القوى الكبرى المخصوصة بالذكاء الجمعي في مقابل الذكاء الفردي. هذا ما يمكن تقريره بكثير من الاطمئنان.
***
ولكن ماذا لو كانت قوّة الذكاء الجَمعي عند فئة ما هي في مقدرتها على أن تكون حمقاء؟
هذا السؤال أطرحه على نفسي وعليكم، وأنا أتابع هذا التشدّد الديني عند بعضنا، ولا مسوّغ له ولا مبرّر من ثقافة الإسلام.
يتفرّع عن هذا السؤال، سؤال آخر كان قد طرحه كثيرون، أذكر منهم المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في مقال له: شي غيفارا وابن لادن… وسؤال فيه نظر! سؤال يراود اليوم أكثرنا: فما الذي يجعل طائفة من شبابنا يدينون مثلنا بالاسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا، ينزلقون إلى أعمال يأباها العقل ولا يقبلها أيّ شرع ناهيك بالاسلام الذي يجعل دم المسلم على المسلم حراما.
تغيير المنكر أم تغيير الحكم؟
هذا التشدّد الذي يدّعي أصحابه أنّ هدفهم هو تغيير المنكر مسألة قال فيه الفقهاء بمن فيهم ابن تيمية وتلميذه ابن الجوزيّة قولتهم.
فتغيير المنكر من شأن الإمام أي الدولة، وليس عمل الأفراد أو الجماعات. ولو أوكلناه إلى هؤلاء من ذوي الأهواء والميول السلفيّة المتباينة، لبقي المسلمون في حرب أهلية طاحنة منذ معركة صفّين. أما إذا ادّعوا أن منكرهم منكر سياسي يُقصد به تغيير الحكم، وإقامة الحاكمية الإلهية أو سلطة الفقيه فإنهم يتعامون عن أن الاسلام عامّةً والمغاربيّ خاصّة، يدين كلّ نزعة فقهية أو ايكلروسية ولا يعترف بأية رهبانية، حتى أنّ عالما كبيرا هو لويس ماسنيون يعرّف الإسلام من حيث هو: تيوقراطية لائكية أو علمانية. وإلى مثل هذا ذهب جاك بيرك أيضا.
ولم يدّع أي مجتمع إسلامي، ما عدا الغلاة والجماعات المتطرفة، أنه محكوم بواسطة المفسّرين لكلام الله.
***
ما يأتيه هؤلاء المتشدّدون، يكاد يكون صورة ممّا كان تأتيه محاكم التفتيش في اسبانيا مع الموريسكيّين الذين أُجبروا ـ طبقا لأوامر الملوك الكاثوليكيّين ـ على الدخول في المسيحيّة، إذا كانوا يريدون البقاء في اسبانيا. من ذلك ما جاء في كتاب الاب أثنار كاردونا’ الطرد العادل لموريسكيّي اسبانيا’ وقد نشره عام 1612وفيه يسوق الحجج الاجتماعيّة مثل العادات المخصوصة بالأطعمة أو الغاسترونوميا أي فنّ الأكل، والملابس وكل ما يتعلّق بنمط حياة الموريسكيّين، والأسانيد الدينيّة التي تُسوّغ في نظره هذا الطرد.
من ذلك، وأنا أنقل أقواله كما هي في ترجمتها العربيّة:
ـ كانوا[الموريسكيّون] حمقى عند عرض حججهم، وكانوا كالحيوانات، همجيّين في لغتهم، وأزياؤهم مزرية؛فهم يرتدون معظم الوقت سراويل من نسيج خفيف أو لباسا شبيها بمن يعملون في البحر. وكانت ملابسهم رخيصة، وكانوا يتعمّدون أن تكون غير كت متناسقة. وكانت أزياء نسائهم على نفس الوضع.
ـ كانوا همجيّين في مأكلهم، وكانوا يأكلون دائما على الأرض، دون استعمال موائد. ولا شيء يدلّ على أنّهم آدميّون. وكانوا ينامون على نفس الهيئة، على الأرض، على شيء يسمّونه ‘المضربة’، في أركان مطابخهم، أو في أماكن قريبة منها لكي يكونوا مستعدّين لحماقاتهم، والقيام للسّحور.
ـ كانوا يأكلون أصنافا دنيئة مثل عجائن من دقيق أنواع البقول والعدس والفول… وبعد الأكل كانوا يتشوّقون إلى الطعام… وإذا سألتهم:لماذا لا يشربون الخمر ولا يأكلون لحم الخنزير؟ كانوا يجيبون بأنّه ليس للأكلات مذاق واحد، وليست كلّ البطون تتحمّل نفس الأكلات. وهم بذلك إنّما يخفون تطبيقهم لشريعتهم…
ـ كانوا يحبّون السخرية والحكايات والرقص والغناء والتجوّل في البساتين، وكلّ أنواع التسلية الهمجيّة حيث الصخب والضجيج…والجري خلف الثيران… كانوا كسالى متسكّعين، يحبّون الجلوس في الشمس شتاءً، والجلوس في الظلّ صيفا..
ـ كانوا يزيدون مشاجراتهم اشتعالا بالصراخ… وذلك امتثالا لأوامر محمّد. وكانوا يحبّون النساء لدرجة أنّ كلّ أحاديثهم ومؤامراتهم ومشاكلهم تدور حولهنّ. وكانوا في هذا الشأن غير أوفياء في بينهم…
ـ كانوا يزوّجون أبناءهم وهم صغار السنّ، لاعتقادهم أنّ السنّ المناسبة للزواج هي 10أعوام للبنت، و12 عاما للولد. وكان غرضهم التكاثر وزيادة العدد كالحشائش الضارة…يزداد المسلمون والمسلمات كنبات الأسل وشجر الصفصاف…
وفي رسالة أخرى لأسقف سيغوري، نقف على ذات الحجج والأسانيد، من ذلك قوله إنّ الموريسكيّين يخالفون كلّ الوصايا فلا يعتبرون عدم الصيام المسيحي ذنبا…وأنّ الذين أودعوا السجن منهم كانوا مختونين، وهذا ـ والعبارة لهذا القس ـ ما أمر به محمّد تطبيقا لتعاليم موسى لكي يجذب اليهود إلى دينه… وهم يستعملون أسماء المسلمين في بيوتهم وفي اجتماعاتهم السرّية. وهم يتّخذون هذه الأسماء بعد أن يتمّ تعميدهم في الكنيسة الكاثوليكيّة… ومن الواضح أنهم لا يمتنعون عن أكل لحم الخنزير، من باب التقشّف والتوبة عن الذنوب ـ فهم لا يعترفون بأنّهم ارتكبوا ذنبا ـ بل اتباعا لشريعة محمّد. وهذا الامتناع عن أكل الخنزير أخذه محمّد عن اليهود… وما إلى ذلك ممّا لا تتّسع له هذه المقاربة. ولكنّ هذا كلّه يؤكّد أنّ ما كان تأتيه محاكم التفتيش في حق الموريسكيّين، يكاد لا يختلف عمّا يأتيه سلفيّونا في حق التونسيّين: التدخّل في نمط حياتنا وعيشنا المشترك.
***
من حقّنا أن لا نهوّن من خطر التشدّد أيّا كان مصدره لا على نمط حياتنا فحسب، وإنّما على هذه الديمقراطيّة التونسيّة المتعثّرة.ولا ينبغي أن تصرفنا عنه، سذاجة بعضهم السياسيّة أو حماقتهم كما يروّج البعض، إذ لا يدركون أنّ هناك إسلاما اسمه الإسلام التونسي وهو الإسلام المالكي الوسطي.. ولكنَّ للحماقة شأنًا وأيَّ شأن.
_______
*تونس/القدس العربي