هل اختطفتنا الأجهزة الرقمية؟


*مرزوق بشير بن مرزوق

قبل أكثر من عام التقينا مع السيد (بيل غيتس) المالك والمدير السابق لشركة (مايكروسوفت) العملاقة في محاضرة خاصة أقامتها مؤسسة قطر، وأهم ما أشار إليه (غيتس) أنه يقوم وقتها بالتعاون بين مؤسسته الخيرية وجامعة (بيركلي) الأميركية لجعل الهواتف الذكية تقوم بأنشطة طبية عن بعد، حيث يمكن فحص مريض في قرية نائية عن طريق برمجيات معينة دون الحاجة إلى أن ينتقل إلى عيادة قد تكون بعيدة عنه.

وتثبت التطورات المتلاحقة والمضطردة يومياً في مجالات التقنية الرقمية أن الفرد لم يعد يستغني عن هذه الأجهزة، ولم تعد من الكماليات بل من الضرورات الملحّة في حياته.
إن أول فعل يقوم به الفرد المعاصر عند استيقاظه من نومه هو تصفُّح تلفونه الذكي، أو جهازه اللوحي أو الكومبيوتر على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وصفحات الأخبار والبريد الإلكتروني، لتبقيه متواصلاً مع الأخبار العامة ومع أصدقائه في جميع أنحاء العالم الذين يتبادل معهم تحية الصباح، ويعرف شئون العالم من خلالهم.
والسؤال هنا: هل أصبحنا ملتصقين بأجهزتنا التقنية إلى درجة عدم الفكاك منها، وتحوَّلنا إلى مختطَفين من قبل هذه الأجهزة؟ هل أصبحت حياتنا في خطر؟!
نلاحظ اليوم، وبشكل صريح، كيف أن الناس في أي مكان أصبحوا منعزلين كل منهم بعيد عن الآخر، سواء في أعمالهم أو في مجالسهم أو في المقاهي، ولم يعد هناك وجود للحوار الإنساني. وتتحدث الأخبار عن قصة راكب مسلّح في أحد الباصات المدرسية في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية تسلَّل خلسة إلى حافلة طلاب دون أن يشعر به ركّاب الحافلة، فأطلق الرصاص على أحد الطلبة حيث الجميع منشغل بجهازه الرقمي.
هناك مصطلح علمي بدأ ينتشر في الأوساط العلمية خصوصاً في علوم الاقتصاد ويُطلَق عليه اسم (التخلّص من سموم الأجهزة الرقمية) (DIGITAL DETOX). ويقصد بهذا الفترة التي يمتنع فيها الشخص عن استخدام تلك الأجهزة كي يلتفت إلى حياته الإنسانية والتفاعلية مع الآخرين بشكل مباشر.
أيضاً أعلنت ولاية بنسلفانيا الأميركية بأنها افتتحت أول مركز طبي لمعالجة أولئك الذين اختطفتهم الأجهزة الرقمية الاتصالية، وأصبحوا شبه مدمنين، من أجل إعادة تأهيلهم وإعادة دمجهم في المجتمع الإنساني.
لم يعد مدمنو أجهزة الاتصال الحديثة يمثِّلون خطراً على أنفسهم فقط، بل امتدت خطورة تصرُّفاتهم إلى الآخرين، وتشهد بذلك إحصائيات إدارات المرور في العديد من الدول، حيث أدّى استخدام جهاز الهاتف النقّال في أثناء السواقة سواء في المحادثات، أو المناقشات الحوارية، واستخدام الرسائل إلى حوادث خطيرة، كما أن الاستخدام غير المقنَّن أدّى إلى أن تصبح هذه الأجهزة فضاءً لنشر الإشاعات والأكاذيب، والسرقات الإلكترونية وغيرها من المشاكل الاجتماعية.
لقد عزلت هذه الأجهزة أفراد المجتمع الواحد، حتى داخل المنزل الواحد الذي انقطعت عنه الأصوات الإنسانية الدافئة، وتحوَّل التواصل إلى كتابات رقمية يتبادلها أفراد العائلة حتى لو كانوا في غرفة واحدة تجمعهم. 
على رغم الافتراض بأن هذه الأجهزة الاتصالية، سوف تختصر الوقت والمسافة بين البشر لتمنحهم الوقت الكافي لكي يتمتعوا بإنسانيتهم، وتواصلهم الاجتماعي المباشر إلا أنه بالعكس تمكَّنت هذه الأجهزة من اختطاف البشر من محيطهم وتحويلهم إلى عبيد ملتصقين بها ليلاً ونهاراً.
لماذا لا نطفئ تلك الأجهزة، ونعود إلى أنفسنا، ونستخدم ما حبانا الله من صوت ومشاعر إنسانية… ونستخدم تلك العطايا قبل أن تتحوَّل إلى أعضاء ضامرة، ونصبح شبيهين بالأجهزة التي تستخدمها أو (تستخدمنا)؟
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *