د.امتنان الصمادي*
( ثقافات )
ارتدت ندى التي لم تبلغ الثلاثين ربيعا المعطف المصنوع من الجلد الطبيعي، وعيناها لا تفارقان المرآة حيث الإحساس بالزهو يمتد إلى قامتها فيبرز جمالها مع كل حركة يسمح بها الضوء المنعكس على أرضية الغرفة ليمرر لمعان الجلد الطبيعي فيخطف بصرها بخبث فلا تعود ترى غير معطف الجلد الثمين، لم يترك اللمعان الجلدي لها فرصة التفكير للحظة بالكم الأيسر الذي أصابه بعض التمزق وهو يختال على جسد مديرة دار رعاية الأيتام عندما ارتدته في العام الماضي، فما يهمها الآن أنه صار لها وتستطيع أن تخرج به للقاء زكريا المنتظر منذ ساعة عند محطة الحافلات يحسب لقدومها دقائق العمر الجديد في علاقتهما التي ستتوج بطلب يدها للزواج.
سارت في الشارع بفخر لم تعتد عليه من قبل، وأخذت تنظر في وجوه المارة فهذه هي المرة الأولى التي تمنح نظرها لذة الولوج إلى عيون الناس بثقة بعد أن كانت تنظر إلى أقدامهم لتداري حضورها في زمنهم الجميل ، شرعت توزع الابتسامات كلما غازلها حزام المعطف الجلدي المصاب بالعطب في كمه الأيسر ورغم أن برودة هواء الشتاء تجد طريقها بسهولة إلى جسدها بسبب هذا التلف إلا أنها ابتلعت البرد وحمدت الله، فالتمزق في كم اليد اليسرى ذات الحركة القليلة لذا لن يظهر للعيان، ولا يمكن لزكريا أن يتنبه له .
تعجبت من أمر هذا التمزق، فما دامت مديرة الدار تستخدم يدها اليمنى بإتقان لتكتب الخطب الجميلة التي تدر أمولا جيدة على الدار، وتلوح بها أثناء إلقاء خطبها أمام المسؤولين والزائرين، فلماذا كان التمزق في كم اليد اليسرى إذن؟؟
انحنت قليلا وهي تسير في الشارع الممتلىء بالمارة لترى أطراف المعطف المنساب على جسدها، ورغم أنها أقصر بكثير من المديرة لكنها سعدت عندما أدركت مقدار تناسقه مع البنطال المقلم بخطوط بيضاء عريضة الذي وهبتها إياه إحدى الجارات عندما أمضت فتاة المعطف يوما بصحبة أبنائها أثناء إبرام مواعيد الزياراتها الترفيهية، وقد أنساها التناسق اللوني خروجه من عالم الموضة،
فكرت في المعطف مرة أخرى إذ يبدو أن الله قدر ذلك التمزق في كمه الأيسر لينتهي لها، في حين كانت هي ترتجف من البرد تحت كنزتها الشتوية المصنوعة من خيوط النايلون فتحرق جلدها قبل أن تدفئه، وكانت تكتفي بأن تستدعي شعورا بالدفء يتسرب إليها كلما نظرت إلى المعطف الذي يرتدي المديرة بحنان أو أي قطعة من الجلد الطبيعي التي تغص بها خزائن المديرة فتعطيها الحق في استبدال القطع كل يوم كما تستبدل ندى أكياس القمامة في سلال مهملات الدار التي تعمل بها منذ سنين.
ما زال الشارع طويلا للوصول إلى موقف الحافلة لكن السير ممتع بين المارة الذين يتزاحمون من حولها، ربما لأنهم يرغبون بملامسة المعطف للتأكد من كونه مصنوعا من جلد طبيعي، وراودها خاطر إذا أحست بتزايدهم حولها ستقول لهم إنه جديد أولا، ومصنوع من الجلد الطبيعي ثانيا، لكنها ظلت تسير مكتفية بأن تعب من الإحساس بالانتشاء، وقد تمنت لأول مرة لو أن السماء تغدق عليها بالكثير من المطر كي تأنس بمنظره وهو ينزلق عن المعطف ولا يجرؤ على اقتحام جسدها . وضعت يدها اليمنى في جيب المعطف، حركت أصابعها حركة دائرية داخل الجيب، وازدادت السعادة عندما تأكدت أنه ليس مثقوبا إذ لا يعقل أن يكون جيب معطف المديرة مثقوبا!!
همت في مشيتها قليلا لتجاري إيقاع سعادة متسارع بدأ يجر معه خطواتها رغما عن وقارها المعتاد ، أخذت تهدىء من حركة الحزام الجلدي التي لا تنفك تعلن أن ثمة فرحا بات يسكن هذا الجسد.
تمتمت بشفتين مرتجفتين من شدة البرد : جديد إنه جديد ولن يصدق زكريا أنه غير ذلك، لن أحرك يدي اليسرى كي لا يلحظ التمزق، وكل ما يقلقني هو أن يلاحظ ذلك التمزق اللعين رغما عني، فهو رقيق المشاعر ويحب كل جديد ولا أعتقد أنه سيفرح مثلي إذا عرف أنني أرتدي ملابس لم تكن يوما لي، فملابسه دائما مميزة وتعكس مدى أناقته، وعلي أن أشرف به كما يحب أن يشرف بي، ولي أن أفاخر به ما دام يحرص على أن يفاخر بي.
وصلت الحافلة، لكنها انتظرت دخول الركاب كي تظل تزهو في الشارع أطول وقت ممكن ولا تريد لأحدهم أن يلاحظ تلف الكم الأيسر، صعدت بعد لحظات وجلست بجانب شاب يحمل بعض الملفات، والغريب أنه لم يلتفت إلى المعطف الجلدي كما اعتقدت مع أنها تشعر بأن يديها الاثنتين تكادان تلامسان السماء وتهمان بحملها في الفضاء أسرع من الحافلة على الأرض، رفعت رأسها متخذة من النافذة وسيلة للتحليق وهي تفكر فلا بد أن هذا الشاب يملك معطفا جلديا، لذا لا يشغله الالتفات إلى مثله، عادت تتأمل خشوع المعطف تحت أطرافها مستسلما لإحساسها الجديد بلذة الامتلاك الحقيقي الذي حرمت منه لأسباب طبيعية، فمن قال إن الدنيا تأنس لوجود الناس في مستوى واحد، فعلى من ستضحك الأرض وقتها وعلى من ستبكي السماء؟!! حياة جميلة لكنها تظل ضربا من الاحتمالات.
وصلت الحافلة المحطة حيث زكريا يقف منذ ساعة وهو ينتظر وصول رفيقة الدرب الجديد، نهضت من مقعدها بحذر شديد كي لا يتأذى المعطف بحركة مفاجئة تجعله عرضة لأسنان زوايا الحافلة الحادة التي لاترحم ملابس المتعبين المنهكين من طرقات الزمن على جيوبهم الفارغة. ولربما كانت تفتعل ذلك لعل أحدا يشاركها سعادة اقتناء معطف جديد.
التفتتت للشاب الذي ما زال يقف بجانبها مستعدا للخروج وقد أخذ ينظر إلى يدها اليسرى، تذكرت الكم الممزق، وأذهلتها المفاجأة فكيف لهذا الشاب أن يلتقط التمزق رغم أنه مخفي ونسي أن يلتفت منذ أن ركبا الحافلة إلى جمال الجلد الطبيعي المصنوع منه هذا المعطف!!
شعرت بضيق، لكنها سرعان ما استعادت الثقة بمعطفها، رفعت رأسها وأخذت نفسا عميقا، عدلت الحقيبة على كتفها الأيسر كي تستعد لتثبيت حركته فلا يشي بمزقه لزكريا، وصارت تخطو خطوات دافئة وقورة مرة ثانية.
نزلت بهدوء وسارت متجهة حيث يقف فتاها منتظرا وغزالة الفرح تراودها لأول مرة كم ساعة ستستغرق وهي تتأمل عينيه بعد الشرود الطويل الذي مر على علاقتهما.
لمح زكريا مشيتها الهادئة والواثقة من بعيد فوقف مستعدا للقائها وهو يتأمل حذاءه الجديد، رفع قدمه اليمنى ليمسحها بذيل بنطاله لعل لمعانه يزداد، فقد كان يعرف أنها تحب كل شيء جديد، وكان لابد أن يحرص على إسعادها، مشى باتجاهها وابتسامته تغالبه ، بدأت خطواته تتقافز بين المارة، ازدادت سرعته لتتناسب وتقافز ندى ، لكن الحذاء أخذ يضرب كعب رجله اليمنى بقسوة، حاول أن يحمل بهجة الحذاء الجديد إلا أن ألمه غلبه وبدت علامات العرج تشوه بهاء مشيته، وأحس بدمه يتقافز في أطرافه، وصلت ندى تحمل سعادتها بيد واحدة، وقفت قبالته بكامل بهجتها المستمدة من المعطف متنظرة أن يصب إعجاب عينيه على أطرافه المتدفقة بحيويتها، وسرعان ما أخذتها الدهشة بعيدا، فزكريا لم ينطق بكلمة واحدة، ولم تعرف لماذا غاص بريق عينيه في الإسفلت ، وبعد لحظات صمت، رفع رأسه مذهولا متفاجئا من عدم قدرتها على الانتباه لحذائه الجديد الذي دفع ثمنه بعضا من دم قدمه بسبب ضيقه الشديد، إذ كيف لصديقه القديم أن يفرط بهذا الجديد الضيق لولا أن زكريا تبرع بحمله لأحد المحتاجين لعله يجد فيه غايته!
* قاصة وأكاديمية من الأردن تعيش في قطر