الأبدية لمن يحبّ


هانم الشربيني *

( ثقافات )

خلف كل امرأة حكاية تحتضن ضلوعها ولا يعلمها أحد.. حكاية بنكهة الوجع، وكلمة النهاية لا تكتب لها إلا بانتهاء الأجل. هنا النساء يتشاركن بدقة متناهية، تشعر كما لو أنهن قطع من الصابون يحملن نفس الرائحة والحجم.. تسير الحكايات الداخلية لهن بطرق واحدة. أمل واحدة منهن، تحرص على تقديم نفسها دائما بالصحفية صاحبة الكاريزما، تحمل حكايات كثيرة داخلها صالحة للكتابة ولكن غير معلنة.. تحرص على الكتمان حتى في علاقتها بنفسها.. تتبع سياسية غلق غرف ذاتها.. لا تتذكر تحديدا اليوم الذي توقفت فيه عن الحديث مع نفسها، لكنها تعرف جيدا الوجع الذي أصابها وتدرك جيدا ماذا فعل الوجع بها، ربما لأنه وجع من نوع خاص، وجع المحبين، تركته للحياة لتمحوه، وقررت عدم الدخول ثانية في تلك المعارك الخاسرة من الاستماع للنفس وتبرير أخطائها. أصبحت تعيش اللحظة وفقط.. لكنها لم تنس وسط هذا الوجع أن هناك بابا يجب أن تفتحه باسمها بعنوان «قلم وورقة» في تلك الصحيفة اليومية الشهيرة التي تعمل فيها.. هناك تشعر بأهميتها.
***
لحياتها سيناريو واحد يوميا، نادرا ما ينحرف.. لا تملك كثيرا رفاهية التغيير لأن ذلك يعني ببساطة اسما يقفز على أكتافها حتى لو كان ذلك من الأسماء غير الموهوبة التي تلقبها بأسماء كثيرة كالصراصير والخفافيش التي تجيد الوصول لقيادات الصحيفة. تستيقظ بنصف عين على صوت المنبه الخشبي الذي يجاور سريرها، الصوت الوحيد الذي ينطلق يوميا ليعلم قصرها الصغير بمصر الجديدة أنه حان وقت المغادرة للنفس الوحيد الذي يسكنه، والذي يطل بوجهه على قصر البارون.
***
تستيقظ كل يوم في تمام الثامنة صباحا بنصف عين، وتحملق لمدة خمس دقائق كاملة في سقف الحجرة المحتفظ بأناقة خاصة وبارتفاع يعرفه كل من شاهد «فيلم ذهب مع الريح»، فقصرها الصغير يحمل نفس الدقة في التصميم، ويحتفظ على حوافه الخارجية بنفس التماثيل، بل بنفس طعم البيوت الهادئة التي تخلو من ضوضاء البشر، والذين يتم استبدال ضجيجهم بالحيوانات الأليفة كالكلاب والقطط.
***
تستيقظ أمل على السرير لبضع دقائق هروبا من دوخة تلاحقها كأرنب إذا استيقظت من سريرها بسرعة متوجهة للحمام.. بعدها وبسرعة تتوجه لفتح باب الغرفة الذي اعتادت أن تغلقه بالمفتاح عند نومها.. وبمجرد فتح الباب تجد قططها التسع في انتظارها تتقافز لنيل حبها كما لو كانت أطفالا صغارا يتنافسون على أمهم لاحتضانها وكسب رضاها. تحتضن القطط برفق مرددة أسماءها التي تحمل أسماء بنات في العادة «ميمي، زيزي، سوسو، توتو، سيكا..»، إلخ.
***

تترك القطط في الصالة بعد احتضانها لها بشكل يشبه التمارين اليومية، وتتوجه للحمام للوضوء والصلاة.. بعد خلع إسدال الصلاة تتوجه لغرفة ملابسها التي استحدثتها مؤخرا في القصر كمحاكاة للبيوت التركية، وبخلاف ذلك لم تغير أي شيء حفاظا على روح أمها حتى في الستائر والمفارش.. تشعر بأن كل قطعة منها بمثابة روح تؤنس وحدتها وتطفئ نار فراقها الأبدي، بل تحتفظ مكتبتها بنفس ترتيب أبيها «أنيس عواد» الشاعر الفلسطيني الراحل الذي رباها على حب الكلمة وعهد إليها دائما بترتيب الكتب، لتدرك مؤخرا أنه كان فخا ليسقطها في بحر القراءة، وما كان هذا الاكتشاف ليتم سوى بالرجوع لقراءة كتاب لم ينشره أبوها في حياته بعنوان «رسائل قصيرة لابنتي الوحيدة».

***
بعد ثوان معدودة ترتدي ملابسها الرسمية التي تحررها من حريتها كأنثى، وتصبها في قالب شخصية اعتادت على الظهور بها، كامرأة تحتفظ بشخصية حديدية ومحبوبة للغاية ولها شبكة علاقات واسعة من الشخصيات العامة، ولو أرادت الوصول لرئيس الجمهورية لوصلت بمنتهى السهولة.. لكن ما يهمها يوميا هو النظر بدقة متناهية لتفاصيل وجهها الذي يحمل عينين واسعتين بالنظر إليهما تشعر بأنهما تحملان بريق الشمس كما تحتفظان بلمعة خاصة غالبا ما يفسرها الناس بأنها دلالة على لمحات الذكاء والحزن الدفين في وقت واحد.. وتحاول الحفاظ دائما على نضارة وجهها، فهي لا تحب اللجوء لمساحيق التجميل الصناعية التي تضفي على المرأة مظهرا براقا، لكنها في الوقت ذاته تحول كل النساء في نظرها لمومياوات تمشي على الأرض، وتلجأ فقط لصباغات الشعر دائما كنوع من إضفاء التجديد على حياتها، وتعبر عن ذلك دائما لصديقاتها في الجريدة بقولها «على رأي أبي.. إذا ما فيه شيء من حولنا بيتغير فعلينا بتغيير أنفسنا».
***
في الثامنة والنصف تماما تكون قد انتهت تماما من كل تفاصيل ملابسها وشكلها، وقبل أن تخرج من الباب تلقي نظرة على قصر البارون وتحاول أن تستمتع بهواء الصباح المنعش، الذي تلتقطه أنفاسها بسرعة كما تلتقط العصافير رزقها اليومي.
***
في ثوان معدودة تنتقل من باب قصرها الصغير، الذي تدور حوله حديقة من الورود وعلى يمينه كشك حراسة يتولى متابعته أفراد من شركة أمن خاصة، وتنطلق بسيارتها إلى جريدتها اليومية القومية التي تقول عنها جرائد المعارضة إنها فم الحكومة، ولسان النظام الرسمي. بمجرد خروجها من سيارتها للجريدة تخلع شخصيتها الحقيقية وتستبدلها بشخصية أخرى، فترتدي قناع الثقة الذي يفسر دائما من المحيطين بها بالغرور، وتلتحف بالجدية والحزم كسلاح مقاومة ضد المتطفلين الذي يعملون بالصحافة ويمتلكون أقلاما مكسورة مررتها الواسطة والمحسوبية ليملكوا أسماء في تلك الجريدة الشهيرة التي تتيح لمن فيها شهرة خاصة، بل ويتسابق ذوو السلطة والنفوذ للاقتراب ممن فيها.
***
تدخل الجريدة فتترك حياتها في السيارة وتودع ذكرياتها التي تعيش فيها بين أب وأم وحبيب فقدتهم بالموت دفعة بعد أخرى، وتقرر الدخول في معارك الصحافة اليومية، والعمل بدار النشر الشهيرة بمنطقة وسط البلد المملوكة لرجل أعمال يدين لكل سلطة بالولاء، وكل ما يعرفه عن الثقافة هو احتكار أعمال الأديب نجيب محفوظ، وشراء كلام الكاتب الصحفي الكبير الملقب من قبل خصومه بـ«ملاكي عبد الناصر». تدرك حقيقة موقفها بالعمل مع جريدة تتبع النظام، لكنها تحمل مواقف خاصة ليست للنشر، وتعيش بين مقولتين لابن القيم وشكسبير يحفظهما قلبها:
«الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة.. ولا شيء أحب للشيطان من حزن المؤمن» (ابن القيم)
«الزمن بطيء جدا لمن ينتظر..
سريع جدا لمن يخشى..
طويل جدا لمن يتألم..
قصير جدا لمن يحتفل..
لكنه الأبدية لمن يحب»
(ويليام شكسبير)
_______
* قاصة وصحفية من مصر 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *