رحل الشاعر والكاتب الكبير انسي الحاج بعد صراع مرير قاس مع المرض كان اقعده قبل نحو شهرين. الشاعر الكبير الذي كان من اعمدة “النهار” وصاحب باع طويل في النهضة الشعرية والثقافية اللبنانية والعربية ترى “النهار” نفسها مفجوعة بفقده اسوة بكبارها الذين فقدتهم وتتقدم من عائلته ومن سائر محبيه ومدمني ادبه وشعره و”كلماته” ومن الزميلة “الاخبار” ومن جميع اللبنانيين بالتعازي الحارة بفقد هذا المعلم الشعري والصحافي الكبير.
أنسي الحاج في سطور
من آل الحاج من بلدة قيتولي، قضاء جزين، الجنوب. مولود في بيروت في السابع والعشرين من تموز 1937. تلقى علومه في مدرسة الليسيه الفرنسية ثم في معهد الحكمة في بيروت. بدأ ينشر وهو على مقاعد الدراسة، مقالات وأبحاثاً وقصصاً قصيرة في مختلف المجلاّت الأدبية في منتصف الخمسينات، وكان على اهتمام خاص بالموسيقيين الكلاسيكيين. تزوج في العام 1957 من ليلى ضو، ورزق منها ندى ولويس. احتفط بشعره ولم يبدأ بنشره إلاّ في أواخر الخمسينات. بدأ العمل في الصحافة في العام 1956 في جريدة “الحياة”، ثم في “النهار” مسؤولاً عن القسم الثقافي، ابتداء من 9 آذار 1956، العدد 6209. وتولى كذلك مسؤوليات تحريرية عديدة في “النهار” وأصبح رئيس تحريرها منذ العام 1995 إلى أيلول 2003. في العام 1964 أصدر “الملحق” الأسبوعي لـ”النهار”، الذي ظل يصدر عشر سنين حاملاً مقاله الاسبوعي “كلمات كلمات كلمات”. مقالاته، بين “النهار” و”الملحق” ومجلات لبنان الأدبية، لا تحصى، جمع بعضها في ثلاثة مجلدات صدرت عن “دار النهار” في العام 1988. أشرف على اصدار “النهار العربي والدولي” في بيروت. شارك في تأسيس مجلة “شعر” وفي اصدارها، وكان أحد اركانها منذ 1957 حتى توقفها في عهدها الاول، ثم في عهدها الثاني. وفي اعدادها الاولى، ظهرت له كتابات نقدية ولم ينشر قصائد. أول ما نشر قصائد فيها كان العام 1958. وكل قصائده المنشورة هي قصائد نثر. في العام 1960 ظهرت مجموعته الشعرية الأولى، “لن”، “دار مجلة شعر”، مع مقدمة كتبها بنفسه في موضوع قصيدة النثر خاصة والشعر عامة. الحرب الأدبية التي أثارتها “لن”، اشترك فيها الشعراء والكتاب من العالم العربي كله، وكانت حداً فاصلاً في تاريخ الشعر العربي المعاصر. في العام 1963 صدرت مجموعة “الرأس المقطوع” عن “دار مجلة شعر” في العام 1965 صدرت مجموعة “ماضي الأيام الآتية” عن “المكتبة العصرية”. وفي العام 1970 صدرت مجموعة “ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة” عن “دار النهار للنشر”. في العام 1975 “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” عن “دار النهار للنشر” وفي العام 1983 أعاد طبع كتابيه الأولين: “لن” و”الرأس المقطوع” عن “الدار الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع”. أصدرت له “دار الجديد” دواوينه الخمسة الأولى في العام 1994، وصدر له ديوان “الوليمة” لدى “دار رياض الريس” في العام 1994، وبالفرنسية في باريس لدى “دار أكت سود” في العام 1997 أنطولوجيا “الأبد الطيار” التي أشرف عليها وقدّم لها عبد القادر الجنابي، وأنطولوجيا “الحبّ والذئب الحب وغيري” في الألمانية في العام 1998، ترجمة خالد المعالي وهربرت بيكر. صدرت له “خواتم 1″ في العام 1991، و”خواتم 2” في العام 1997 لدى “دار رياض الريس”. في نيسان 2007 صدرت أعماله الكاملة في ثلاثة مجلدات لدى “هيئة قصور الثقافة” في القاهرة.
في الستينات ساهم في إطلاق الحركة المسرحية الطليعية في لبنان من طريق الترجمة والاقتباس، وكانت ترجمته لمسرحية “كوميديا الأغلاط” لشكسبير بلغة حية ومتحركة (مسرحية) وفصحى، همزة وصل بين الجمهور والمسرح الجدي، قديمه وحديثه. لكن نجاح هذه اللغة، ظهر، أكثر ما ظهر، مع ترجمة لمسرحية “الملك يموت” لاوجين يونسكو في العام 1965. ترجم ايضاً للفرق المسرحية اللبنانية (بعلبك – منير أبو دبس – برج فازليان – شكيب خوري – روجيه عساف – نضال الاشقر…) مسرحيات “العادلون” لكامو، “القاعدة والاستثناء” لبرشت، “احتفال لزنجي مقتول” لأرابال، “نبع القديسين”، “رومولوس الكبير” لدرونمات، و”الآنسة جوليا” لسترندبرغ.
إلاّ أن أقوى اندفاعاته، على صعيد المشاركة في الحركات الفنية، ربما هي اندفاعته مع الأخوين رحباني، اللذين كان بدء معرفتهما الشخصية به في حزيران 1963، على اثر مقال كتبه عن فيروز، رافضاً مبدأ المقارنة بين صوتها وبين أصوات مطربات أخريات، معتبراً أن في صوت فيروز، فوق الجمال والبراعة، “شيئاً أكثر” كما سمّاه، هو العامل الغامض الذي لا يستطيع أحد له تفسيراً، والذي سيظل يحيّره، كما يظل كل “شيء أكثر” في الخليقة يحيّر العقل والتحليل. الواقع أن هذا المقال لم يكن الأول الذي كتبه أنسي الحاج عن فيروز. ففي العام 1956 كتب في مجلة “المجلة” مقالاً عنها بعنوان “فيروز”.
ترجمت له قصائد عديدة الى الفرنسية والانكليزية، واستوحى بعض المسرحيين قصائد له فأخرجوها (منهم يعقوب الشدراوي وريمون جبارة)، كما استوحى بعض الموسيقيين قصائد له في أعمال موسيقية.
وكثيرون من الرسامين اللبنانيين والعرب (بول غيراغوسيان، رفيق شرف، منير نجم، جان خليفة، وضاح فارس إلخ…) اقترنت رسوم لهم بقصائد له.
تحت حطب الغضب
ما عدت أحتمل الارض
فالأكبر من الارض لا يحتملها.
ما عدت أحتمل الأجيال
فالأعرف من الأجيال يضيق بها.
ما عدت أحتمل الجالسين
فالجالسون دُفنوا.
ريشةٌ صغيرة تهبط من عصفور
في اللطيف الربيع
تقطع رأسي.
مُتعبٌ ومليء متعبٌ وجميلٌ متعبٌ تحت حطب الغضب
لأني بلغت المختار
لأن امرأة ربّتني على ترابٍ شفاف
لأني عثرتُ على الحدود
فتحتُ الحدود.
لأني وجدتُها وألغيتُ الحدود.
لم يعد لي صبرٌ على من ورائي
ولا على الأحياء السابقين.
عندما حصلتُ على الأكثر من أحلامي حصلتُ على الأكثر من الصحراء
وبعدما صعدتُ العرش والشجر الخالية منه الدنيا
حواني شجر البَرْد
ولم أتحكم لكني تعبت.
ولن يبكيني أحد
حقاً
ولن يرتعشوا لغيابي
حقاً كما كنت حاضراً
ولن يستوحشوا مثل برج
ولن يموتوا عليّ موتاً يضاهي حياتي.
أخذتُ ما يؤخذ وما لا يؤخذ وتركتُ ما يُترك وما لا يُترك
وإني خرجت
وامرأةٌ باقية بعيدة
تكلّمني تلامسني
وكم أرغبها وكم أيضاً وراء الموت!
والى المهتمين:
أنا أعظم مَن عاش
لأني أعظمكم في الأُنس والمنفى
بل لأني أعظم كائن عاش
كالنسر في البَصَر كالحبر في العمى
عظيماً في الصيد وفي الغفلة
وشاهدتُ نجمتي فأخبرتكم خلاصتها
بسرعة النمر وبياض الحمام
حتى تعبت وغضبت
لأني تجاوزتُ الفنون والعلوم
واختصرتُ ظاهر العقل وباطنه
وملكتُ العَصَب وبدّدته
وكسرتُ الصاروخ والروح
ثم اقترفتُ بكلامي ذنب التواضع
لأني فكرتُ أنه العالم يستحق التواضع
ووقع كلامي في شلاّل
وهو نادم غير نادم
لكنه يعلن لكم
كلامي يعلن أنا الكلام
منذ قليل ومنذ كثير
أنا الكلام وآخر الكلام
وأول ضرب على صدر الحياة
وسوف تفتح لكم الحياة
سوف تفتح الخزائن
سوف تفتح الحياة
ولن أكون بينكم
لأن ريشة صغيرة من عصفور
في اللطيف الربيع
ستكلل رأسي
وشجر البرد سيحويني
وامرأة باقية بعيدة ستبكيني
وبكاؤها كحياتي جميل.
ماذا صنعتَ بالذهب
ماذا فعلتَ بالوردة
قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت.
سوف يكون للجميع وقت، فاصبروا.
اصبروا عليَّ لأجمع نثري.
زيارتكم عاجلة وسَفري طويل
نظركم خاطف وورقي مبَعْثر
محبتكم صيف وحبيَّ الارض.
مَن أُخبر فيلدني ناسياً
الى مَن أصرخ فيعطيني المحيط
صار جسدي كالخزف ونزلتُ أوديتي
صارت لغتي كالشمع وأشعلتُ لغتي
وكنتُ بالحبّ.
لامرأة أنهضتُ الأسوار فيخلو طريقي اليها
جميلة كمعصيةٍ وجميلة
كجميلة عارية في مرآة
وكأميرة شاردة ومخمَّرة في الكرم
ومَن بسببها أُجليتُ وانتظرتها على وجوه المياه
جميلة كمركب وحيد يقدّم نفسه
كسرير أجده فيذكرني سريراً نسيته
جميلة كنبوءة تُرسَل الى الماضي
كقمر الأغنية
جميلة كأزهارٍ تحت ندى العينين
كسهولة كل شيء حين نغمض العينين
كالشمس تدوس العنب
كعنبٍ كالثدي
كعنبٍ ترجع النار عليه
كعروس مختبئة وراء الأسوار وقد ألقت عليَّ الشهوة
جميلة كجوزة في الماء
كعاصفة في عطلة
جميلة أتتني
أتت إليَّ لا أعرف أين والسماء صحو
والبحر غريق
من كفاح الأحلام أقبلتْ
من يناع الأيام
وفاءً للنذور ومكافأةً للورد
ولُمّعتُ منها كالجوهرة.
سوف يكون ما سوف يكون
سوف هناك يكون حبّنا
أصابعه ملتصقة بحجار الأرض
ويداه محفورتان على العالم.
انقلوني الى جميع اللغات لتسمعني حبيبتي
انقلوني الى جميع الأماكن لأحصرَ حبيبتي
لترى أنني قديم وجديد
لتسمع غنائي وتطفئ خوفي
لقد وقعتُها وتِهتها
لقد غِرتُها
أعيروني حياتكم لأنتظر حبيبتي
أعيروني حياتكم لأحبّ حبيبتي
لأُلاقيها الآن والى الأبد
لكم أنتم لتدقَّ الساعات
من سراجكم ليؤخذ نور الصباح
فأنا بريء وحبيبتي جاهلة
آه ليُغدَق علينا
لنوفّر لنجتنب
وليغدَق علينا
فحبّي لا تكفيه أوراقي وأوراقي لا تكفيها أغصاني
وأغصاني لا تكفيها ثماري وثماري هائلة لشجرة
أنا شعوبٌ من العشاق
حنانُ لأجيالٍ يقطر مني
فهل أخنق حبيبتي بالحنان وحبيبتي صغيرة
وهل أجرفها كطوفان وأرميها
آه من يسعفني بالوقت من يؤلف لي الظلال من يوسّع الأماكن
فإني وجدتُ حبيبتي فلِمَ أتركها…
ما صنعتْ بي امرأة ما صنعتِ
رأيتُ شمسكِ في كآبة الروح
وماءكِ في الحمّى
وفمكِ في الإغماء
وكنتِ في ثيابٍ لونها أبيض
لأنها كانت حمراء
وأثلجت
والثلج الذي أثلجت كان أحمر
لأنك كنتِ بيضاء
ورددتِ عليَّ الحب حتى
لا أجد إعصاراً يطردكِ
ولا سيفاً
ولا مدينة تستقبلني من دونكِ.
هذا كلّه
جعلتُه في ندمي
هذا كلّه جعلتُه في أخباري
هذا كلّه جعلتُه في فضاء بارد
هذا كلّه جعلته في المنفى
لأني خسرتكِ
إذ ملأتُ قلبي بالجنون وأفكاري بالخبث
فكتمتِ وانفصلتِ
وكنت أظنكِ ستصرخين وتبكين وتعاودين الرضى
ولكن كتمتِ وانفصلتِ
وكنت أظنّكِ ستعرفين أن نفسي بيضاء برغم الشرّ
وأني لعباً لعبتُ وحماقتي طاهرة
وكنت أظن أنكِ وديعة لتغفري لي
أنكِ وديعة لتقبّلي آثامي
أنكِ وديعة لأفعل بكِ كالعبيد
وكنت أظن أني بفرحٍ أظلمكِ وبفرحٍ تتنفسين ظلمي
وكنت أظنّ أني ألدغكِ فتتّسع طمأنينتي وأنقضكِ كالجدار فتعلقين كالغبار بأطرافي
لكني ختمتُ الكلام وما بدأتُه
وأتفجّع عليكِ لأني لم أعرف أن أكون لكِ حراً
ولا عرفتُ أن أكون كما تكون اليد للزهرة
فكنت مغنياً ولكِ ما غنّيت
وملكاً وأنتِ لم أملك
وأحبّكِ
وما أحببتكِ إلاّ بدمار القلب وضلال المنظر
وأحبّكِ
وطاردتكِ حتى أشاهد حبّكِ وهو نائم
لأعرف ماذا يقول وهو نائم
فحمله الخوف وروّعه الغضب
وهرب الى البرج عالياً
كاتماً قد انفصل
وأنا في جهلي أطوف وفي حكمتي أغرق
على موضعٍ أدور على موضعٍ أهدأ
وحبّكِ يقظان وجريح وراء الأسوار
وحبّي بارّ بعد الأوان
نار البِرّ تأكله بعد الأوان.
أحفظُ مظالمي وأُعطي مبراتي
أحفظُ مظالمي فمن يعطيني مظالمه
ومن يأخذ مبرّاتي ويعطيني الرجاء
لأني لم أعد ألمح نوراً في الغابة
تذهب الريحُ بالثلج وبالثلج تعود
جسدي كالخزف ولغتي كالشمع
اتخذتُ آفاقاً عظيمة وجعلتُها حفراً
اتخذتُ الليل فأطفأتُه والنهار فأسلمته
اتخذتُ الأكاليل فاحتقرتُها
اتخذتُ الحبّ فكسرتُه
اتخذتُ الجمال وكرجلٍ أفقرتُه
اتخذتُ الحبّ
اتخذتُ الحبّ الشبيه ببرّ لا يحدّه ماء
الشبيه بمياهٍ لا تحدّها برية
اتخذتُ الحبّ عوض كلّ شيء مكان كلّ مكان بدل الجوهر ومحلّ الشرّ والخير
أخذته أخذتُ الحبّ وشكوني
الذين صاروا في فاقة
وتعالت جفونهم الذين حسدوني
ونهش ضحكهم الهواء الذين تهكّموني
فماذا صنعتُ بالحبّ
وأخذتُ ذهب النساء وردة الذهب فماذا صنعتُ بالذهب وماذا فعلتُ بالوردة
انقلوني الى جميع اللغات لتسمعني حبيبتي
ثبّتوها على كرسيّ وجِّهوا وجهها إليَّ
أمسكوا رأسها نحوي فتركض إليَّ
لأني طويلاً وبّختُ نفسي ويأسي قد صار مارداً
أطيعي دمعكِ يا حبيبتي فيطرّي الحصى
أطيعي قلبكِ فيزيل السياج
ها هو العالم ينتهي والمدن مفتوحةٌ المدنُ خالية
جائعةٌ أنتِ وندمي وليمة
أنتِ عطشانة وغيومي سودٌ والرياح تلطمني.
العالمُ أبيض
المطر أبيض
الأصوات بيضاء
جسدكِ أبيض وأسنانكِ بيضاء
الحبر أبيض
والأوراق بيضاء
اسمعيني اسمعيني
أناديكِ من الجبال من الأودية
أناديكِ من أعباب الشجر من شفاه السحاب
أناديكِ من الصخر والينابيع
أناديكِ من الربيع الى الربيع
أناديكِ من فوق كل شيء من تحت كل شيء ومن جميع الضواحي
اسمعيني آتياً ومحجوباً وغامضاً
اسمعيني اسمعيني مطروداً وغارباً
قلبي أسود بالوحشة ونفسي حمراء
لكن لوح العالم أبيض
والكلمات بيضاء.