لِمَ لم تتطوّر الفلسفة العربيّة المعاصرة؟


* نزار حسين راشد

( ثقافات )

حين قدّم “هيجل” موضوعته المشهورة حول علاقة السيّد بالعبد،لم يكن ذلك إلّا صياغة تجديديّة ، لثُنائيّة الفكرة -الضرورة،العقل والجسد، بموازاة الفكرة الدينيّة،أو ثُنائيّة الجسد والروح! وكما هي حال الفلسفة دائماً، تنأى بنفسها عن المصطلح أو التيرمينولوجيا الدينيّة، بالقدر الّذي تنأى فيه عن الفهم الديني، مقدّمة أطروحتها بِلُغتها،ومؤكّدةً قيمتها الذاتية، في آنٍ معاً!
هذه الفكرة المُجرّدة، قُدّر لها أن تلعب دوراً خاصّاً ومُتفرّداً، في التاريخ السياسي للمجتمعات المعاصرة!
إنّ فكرة إرتقاء الإنسان نحو الكمال، من خلال جدليّة صراع الأضداد، في سعية لفكّ حبل الضرورة من حول رقبته،وصولاً إلى الحُريّة الكاملة،الّتي يستغني فيها كُلٌ من العبد والسيّد،أحدهما عن الآخر،هذه الفكرة التقطها كارل ماركس،كأداةٍ فقط،ومحوّلاً فكرة الضرورة،إلى سلسلة حتميات،تتحكّم في تطور المجتمعات،من خلال الجدليّة،الّتي تحكم الصراع بين الطبقات،وبالرغم من تطفُّله على الفكرة الهيجيليّة،إلا أنّه طعن الهيجيلية في الظهر،متّهماً إيّاها بالمثالية،وهي تهمةٌ توازي التهمة الدينية ب”التجديف”!
إنّ فكرة الاتّكاء على الضرورة،والحاجة البيولوجية للإنسان،واعتماده على كدحه اليومي لضمان بقائه،هي إشكاليّة في صميم الوجود الإنساني،ولذا سرعان ما تحوّلت جدليّة ماركس إلى فلسفة اجتماعيّة وثورات،مغيّرةً الشكل السياسي للعالم!
أمّا جدليّة هيغل،فلم تبق حبيسة التجريد بدورها هي الأخرى،وسرعان ما التقط فريدريك نيتشة الفكرة،معلناً موت الله،وولادة الإنسان الخارق أو المتفوق،فالإنسان وصل إلى المرحلة الّتي يمكنه فيها الاستغناء عن الدين! وهكذا التقط”أدولف هتلر”الفكرة،ولكنّه قصر التطور على سلالة بعينها،السلالة أو الجنس الجرماني،وهكذا ولدت النازية،من رحم الفلسفة الهيجلية،عبر تطوير نيتشة لفكرة الإنسان المتفوق،أو الإنسان الإله!
لم يبد كُل ذلك منافياً للمنطق الفلسفي العقلاني،لا طبقة ماركس الثوريّة،ولا سلالة هتلر المتفوقة،والمولودتين من رحم الهيجلية!
فبالنسبة لهتلر،السلالة الّتي تنتج التقنية المتطوّرة،والدّبابة والمدفع والطائرة،لا شكّ أنّها متفوّقة على الرجل الأسود،الّذي لم يزل يركض عارياً في أدغال إفريقيا!كما أنّ نضال العبد لنيل حريّته،متفقٌ بدوره مع منطق الأشياء!
وبالرغم من هذا الغطاء المنطقي،فقد دفعت الإنسانيّة،ملايين الضحايا،عبر الحروب والثورات،وسقطت الإنسانية في شرك مغالطاتها المنطقية،ولم يولد الإنسان المتفوق،بل ظلّ يُصلي إلى الله،ليضع بيده نهاية،لهذه المعاناة الإنسانيّة الفادحة!
وهكذا فلم تكن الفلسفة العربيّة المعاصرة،لتلتقط هذا الخيط من يد الفلسفة الغربيّة،وقد كانت شاهداً حيّاً،على نهاياتها الفاجعة!
ولذا فقد عادت لتلتقط الخيط،من عند ابن رشد،وابن سينا والفارابي،وهكذا ولدت مقولة العقل العربي،على يد محمد عابد الجابري،على سبيل المثال،وهي الفكرة الّتي تصدّى لتفنيدها،الإسلاميون والماركسيون على حدّ سواء،ولم يعدموا الوسيلة لذلك،فوضعت على الرّف الأكاديمي،ولم يحتف بها أحدٌ بعد،فنجد مفكّراً مغاربيّاً مثل “محمّد أرغون” منشغلاً،بموضعة الدين ضمن قالبٍ فلسفي،ولم تثمر جهوده شيئاً ذا بال،لا على صعيد المصالحة بين الفلسفة والدّين،ولا على صعيد تطوير الفلسفة العربيّة!
ويبدو أنّ الإمام أبا حامدٍ الغزالي الغزالي،قد وجّه طعنة قاتلة،إلى الفلسفة العربيّة،حين وضع كتابه”تهافت الفلاسفة”،ولم يسعف الفلسفة العربيّة بشيء ردّ ابن رشد عليه في كتابه”تهافت التهافت”!ذلك أنّ الغزالي قد خاض غمارها وشرا وباعا،فقد أمضى عُمُراً كفيلسوف،قبل أن يصبح متصوّفاً،وهكذا ظلّ فكر الغزالي الديني،محتفىً به إلى اليوم في العالم الإسلامي،والعربي الإسلامي بالذات،في حين احتفى العرب بابن رشد والفارابي،ولكن احتفاء العرفان،إذ أنّ الفلسفة اليونانية قد انتقلت بأمان إلى الغرب عبر مؤلفات ابن رشد!
لقد سبق المعتزلة ابن رشد بزمن طويل،في محاولة المزواجة بين الدين والفلسفة والمنطق اليونانيين،ولكنّهم هُزموا شرّ هزيمة على يد الأشاعرة،الّذين أطّروا الفقه الإسلامي عبر الأئمّة الأربعة المعروفين،ودخل المعتزلة متحف التاريخ،وعرفوا بأهل الكلام،ولا يخفى ما في هذه التسمية من استصغار ووضعٍ من شأنهم!
وهكذا انتصر الدّين في المجتمعات الإسلاميّة على الفلسفة،الّتي لم تخرج بعد من تحت مظلّته الفكرية!
إنّ فكرة تطوّر الإنسان كمخلوق،عبر فكرة السيطرة على العقل،وبالتوازي على الطبيعة،هذه الفكرة الّتي هي قلب الفلسفة الغربيّة الناهض،لم تجد لها صدى جدّياً في الفكر الإسلامي،والسبب بديهي جدّا،ذلك أنّ فكرة تحدّي الإله أو التنافس معه،هي فكرة تجد جذورها في الفلسفة اليونانيّة،أُمّ الفلسفة الغربيّة المعاصرة،ذلك أنّ الآلهة عند اليونان،ليسوا إلّا بشرا خارقين،ومن هنا فإنّ فكرة الإنسان المتفوّق أو الإنسان الإله،هي انبثاقٌ طبيعي من الشجرة الأم،الفلسفة اليونانيّة!
وحتّى فكرة استعباد الضرورة للإنسان،هي فكرة المدرسة اليونانيّة الكلبيّة،والّتي تأصّلت على يد أبيقور وزينون الكلبي،وديوجين الّذي لم ير في الإسكندر المقدوني،إلّا رجلاً يحول بينه وبين الإستمتاع بالشمس!وليس بدعاً من الأمر أن تكون أطروحة ماركس للدكتوراة حول فلسفة أبيقور الكلبيّة!
لم تزل فكرة الإنسان الخارق مغرية وحميمية،بالنسبة للكاتب الغربي،وهكذا نجد أنّ مسرحيّة”الإنسان والإنسان المتفوّق”Man and super man” من أكثر مسرحيات :برناردشو” رواجاً على الإطلاق!
أمّا في وجداننا الإسلامي فلا يمكن أن تنسب العظمة إلّا إلى الله وحده،وممّا يزيد هذه الفكرة رسوخاً لدى الوجدان المسلم،حديث القرآن عن الأمم العظيمة والحضارات المتطوّرة،الّتي عفت واندثرت،ولم يشفع لها تطوّرها بشيءِ أو يغني عنها من الله شيئا!
حتّى أنّ القرآن الكريم قد فصّل تفصيلاً عجيباً،في وصفه لمدى التطوّر الّذي أحرزته فيقول الله سبحانه وتعالى”وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون” “وإذا بطشتم بطشتم جبّارين”،ولا يستطيع الذهن المتلقّي،إلّا أن يسحب ذلك على الحضارة المعاصرة،في سعيها للإنتصار،على محنة الفناء الإنساني،لعلّها تنجو بعلمها من هذا القدر المحتوم،مستبدلة جنّة الآخرة،بجنّة الدنيا الّتي يحكمها الإنسان الخالد،وليس الإله المعبود!
وهكذا تبدو فكرة الخلود الإنساني في نظر المسلم،غريبة وهجينة ولا مكان لها،في حين أنّ بديلها الحاضر دائماً في الوجدان المسلم:الإيمان الديني،راسخٌ وعصيٌّ على التحدّي الفلسفي!فلا خلود إلّا في جنّة الآخرة،ولذا فالنص القرآني،قد قرن الإيمان بالله بالإيمان باليوم الآخر،فقال عزّ وجل”الّذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة وممّا رزقناهم ينفقون!

شاهد أيضاً

فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“

(ثقافات) فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“ بقلم: إدريس الواغيش في البَدْءِ كان جمال الطبيعة وخلق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *