*عبدالكريم الساعدي
( ثقافات )
خلسة وبهدوء شديد دخلت عالمي، استباحتْ حصونَ غربتي وخجلي ،نثرتْ عطرها فوقَ شيبي، وراحتْ ترمّمُ ما تبقى من حيرتي بسحرها وزهو كلمات المحبّة . كنت ُ غريباً أرهقني البعد والحنين ، قلقاً من هول المسافات الممتدّة بين شيبي وجدائِلها الراقصة على أكتاف غصنِ بانٍ طري يتمايل مع الهمس والشوق ،أحسستُ أنّي أهجرُ ظلمت أحزاني بعدما تسلّل ضوء البرائة من نافذة مشرقها ، دفنت ُ آثار الحرب تحت ظهر مدينتي وغادرت عجزي وطقوس موتي محلقاً لعالم احتضن جغرافية أسراري وبوحي .كنتُ لها ابتسامة تلثم شفتيها العذبتين ، وكأس يهتزّ فرحاً بين يديها الناعمتين ، ملأتُ فراغات طرقها المهجورة . ظلّ ما بيننا يلتهمنا شيئاً فشيئاً دون أن ندري، تؤانس غربتي ،وطيفي يؤانس وحشتها. قلت لها مرّة وأنا مدرك موتنا البطيء الذي ينتظرنا :
-إلى أي مدى ستنتظرين الأسى ؟
قطبتْ جبينها ، ارتعشتْ من سطوة الفراق ، قالتْ :
غطتْ عيونها بالدمع وتوارتْ تحمل مراسم تشييع أطيافنا التي لم تكتمل بعد . طوّقتها بأعذار الشيب والسفر الذي لابدّ منه ، داهمتني بسرعة مذهلة لتغتال كلّ أعذاري المثخنة بالألم :
-وهل تتركني كحبات قمحٍ في هذه الحقول الموحشة ؟
-لكنّي غريب ودوماً على سفر.
تجاهلتها عن عمدٍ وأدرتُ ظهري لبقايا دمعٍ ما زلتُ أحتفظ به . انتظرتْ سفري طويلاً لتودعني بدمعها ، وهي مازالت تحلم أن أعود لصحراء قلبها ولو بعد حين ، وانتظرتُ موتي لأعانق آخر الهمسات ، وتعانق عيناي تلويحة يديها عن بعد . عدتُ لغربتي حاملاً نصفي وتاركاً النصف الآخر هناك.