فصل من رواية “صالح شارلي”


*نبيل قديش

( ثقافات )

هو يوم آخر قد يبدو عاديا وسوف ينقضي رتيبا على البلدة ليتخزّن في الذاكرة على أنه يوم آخر من الشقاء. لا شيء يوحي بأنه سيأتي بالجديد أو بغير المعتاد. هكذا هي حال الأحداث الجلل والخطرة تأتي حين لا نتوقعها أبدا. تفاجئنا علي حين غرة ونحن منشغلون عنها، منهمكون في الحياة وأعباءها.
قلت يوم عاديا لأنه إذا استثنيا الشيخ صالح شارلي الذي يبدو أن الفرعون سيحسم أمره خلال أيام قليلة، وتتجه نيته نحو ترحيله إلى سجن الجهة الكبير في انتظار أن يحاكم بتهمة تعاطي مادة مخدرة، وبشير الوحش الذي أذعن أخيرا، لم يكن هناك ما ينبأ بأن معول الزمن كان بصدد أن يضرب ضربته القاسية.
بشير الوحش أمضى على أقواله في المحضر الذي ظل الفرعون لأسابيع يحثه على فعله بالترغيب والترهيب ، تارة يستميله وتارة يصب جام سخطه عليه، فيعمد إلى تعذيبه بانكى الطرق وحشية، آخرها كان وضعية الدجاجة المصليّة، وشهده كل من كان في المخفر معلقا بين مقعدين بينما انهالت عليه المتراك تنهشه نهشا. الشيخ صالح شارلي أمضى ليلة إضافية في غرفة الحجز المعزولة، لم تأت سيارة المنطقة بالأمس لتخفره إلى سجن الجهة الكبير كما كان مقررا ، لكن بعيد شروق شمس الغد ، وحوالي الساعة السابعة والنصف صباحا كان الشيخ شارلي جالسا على كرسيّ أمام عبد الستار المعاون. على المكتب مقابله كان موساه بوسعادة البنيّ ومحفظته الجلدية وساعته الكبيرة وهي كل أغراضه التي حجزت معه ذلك الفجر. وضعها المساعد في كيس بلاستيكي لترحّل هي أيضا. كان المعاون يحرك يديه متثاقلا على مساحة المكتب، يتثاءب فاغرا شدقين أشبها بشدقي فرس بحر، والشيخ يرمقه بازدراء. 
فى الخارج كان يوما باردا بعض الشيء، تحت سماء رمادية احتشدت في أطرافها سحب رصاصية اللون لا تنبأ لا بأمطار ولا بصحو، كأنها اختارت أن تكون محايدة غامضة. من خلفها كان قرص الشمس يظهر ليختفي بسرعة، وكأنه مشفق مما سيحصل، ولا يريد أن يكون شاهدا على الغدر. 
أصبحت الساعة تشير إلى الثامنة تماما في الساعة الحائطيّة المعلّقة في بهو المخفر. كان عبد الستار ينقر آخر حروف محضر إحالة الشيخ صالح شارلي. كان وقع حروف الآلة الكاتبة يشبه صوت زخّات الرصاص. أتمّ رقن التالي : عن رئيس منطقة الحرس الوطنى وبتفويض من السيد رئيس مركز الحرس الوطني…
وعند الثامنة والنصف أقبل الفرعون مزهوا على غير العادة، وجد “ولد دردور” يتكأ على باب المخفر الحديديّ، كان هو من بادره بتحية الصباح على غير العادة أيضا حتى أن الشابّ التف خلفه وحواليه ظنّا منه أن غيره كان المعنى بتحية الصباح تلك ، ضحك في وجهه الفرعون، و قال له مازحا: 
اختر بين أن تفوز بثمن زجاجة كولا أو أزوجك بدليلة بنت شعبان !
أعقب الفرعون ذلك بضحكة عالية مجلجلة، واضعا في يد سمير قطعة نقدية معدنيّة، ومضا تاركا إياه واجما، بعد أن ذكّره بتلك الحادثة. والتي ترتعد لها فرائصه إلي اليوم. 
وكان وجه الفرعون يطفح بسعادة مردّها أنه تخلص من كابوسين طالما أرقاه وأقضا مضجعه، لم يكن يحلم بنهاية مظفرة كالتي أقفل بها ملفي بشير الوحش والشيخ صالح شارلي. نظر بزهو إلى الرزنامة فئ الحائط المقابل أعلى مكتب الاستقبال في بهو المخفر. السبت 7 نوفمبر 1987. أقبلت عطلة نهاية الأسبوع سريعا، تبدو واعدة. فكّر أنه على موعد العادة كما دأب في منزل دليلة بنت شعبان مع شلّته وجلسة مؤنسة رائقة، فكّر في أنها أروع ما سيختتم بها أسبوعا صعبا حافلا وهمس لنفسه: أخير تتنفس الصعداء أيها المحارب. فتح مكتبه وحالما جلس على كرسيه الوثير نادى على معاونه وطلب أن يأتي له بمحضر الشيخ ليؤشر عليه بالعرض على النيابة، وأصرّ أن يبقى الشيخ في مكتب عبد الستار لآخر لحظة إلى حين قدوم سيارة المنطقة، لأنه لا يريد لمزاجه أن يتعكّر، وليس في وارد أن يقامر بتلك النشوة التي تعتريه والتي لا يعرف كنهها حقيقة. 
وثب من على كرسيه الهزّاز، وكأن نداءا خفيّا أمره بأن يذهب ويقف أمام المرآة الصغيرة في الحائط المقابل لمكتبه. نظر لنفسه مليّا في المرأة وقال: إنني لامع وعظيم هذا اليوم وكلّ الأيام. لم يكن فقط غروره الذي شحنه ذلك الصباح ليشعر بتلك الطفرة من السعادة. كانت ردّة فعل غريزية و ملحّة لأن يوقف ذلك التردّي المشئوم الذي تفرضه الطبيعة دائما لتقويض كلّ ما هو موجود.
وكان بجانبه فوق المكتب البنيّ بجانب الأبجورة مذياع أسود اللون فتحه، كان نغم شجي يصدح بصوت صباحي راق. تمطى على وقعه وتأرجح بثقله إلى الوراء حتى كاد يصبح في وضع الاستلقاء على ظهره فوق الكرسي الذي ندّ عنه صرير خافت. أغمض عينيه وحلم قليلا بجسد دليلة ،ثم اقتحم خيال العارم فجأة مخيلته، وأخيرا رست سفينة الشبق على شاطئ بنت دليلة، ابتسم في سره وهو يتذكرها، وكان قد اشتاق إليها كثيرا بعد جفاء طويل، ومنّى نفسه بليلة من الليالي الخوالي. حيث لم يظهر بعد فى أفقه خيال بشير الوحش المقيت. كاد ينجرّ إلى تلك الأيام لولا أن صوتا مفعما بالثقة والاقتدار قطع عليه حلمه قائلا: 
بسم الله الرحمان الرحيم
أيها المواطنون، أيتها المواطنات نحن زين العابدين بن علي الوزير الأوّل بالجمهورية التّونسية أصدرنا البلاغ التّالي…
________
*كاتب من تونس 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *