يوسف خديم الله *
1 سبقتُ زملائي، اللاّحقين أيضا، إلى قلمِ الرّقيبِ، ذلكَ القارئ المتعجّل لشاعرٍ متمهّل، مثلي!
2
فلاّحُ الخسارةِ الحرِنِ، أرمي الآخرين، أذكياءَ العالَم السّعيدِ، بتُهم باطلةٍ، من قبيل الجشع كنايةً عاريةً عن فائضِ القيمةِ والتّوحّش المدنيِّ وممارسةِ الرّياضاتِ المختلفة المشبوهةِ خارج المياه الإقليميّةِ..
3
أنا ذاتُه،
الحاسِي سُمّهُ بيدهِ، قياسًا على استغاثةٍ يائسةٍ لأحدِ أجدادي الأغبياءِ، مثلي، أبي حيّان التّوحيدي، ادّعيتُ أنّ أقصرَ الطّرُقِ إلى الجنّة هو الجحيمُ.
لا أحدَ كذّبني سوى زوجتي، المتفائلةِ، لأنّها تُعادي ما أعانِي من سنِّ اليأسِ التّي استقرّت فيها السّيدةُ، العانسُ الشّرقيّةُ – والغربيّة أيضا – : الحرّيةُ.
4
تبّاً!
ذا أنا ألغُو صامتًا، بعد أن علّقتُ لساني في لساني، مُتسلّيًا بتخنيثِ هزائمي وتدريبِ ابني ‘ واثق’ على الشّكِّ في أبيهِ وفي الطّاقة الصّوتيّة والشّاذّةِ للحروفِ الحلقيّةِ العربيّة!
5
ذا أنا أسكتُ، صائتاً.
زوجتي تلكَ، تنبّهُني في اللّيلِ إلى حشرجةٍ تسيُل كاللّعابِ من أذني، ‘ تتأبجَدُ’ على شفتيها فتقرأُ، في تلَعثُمها، آيةَ الكرسيّ أو، في تماسُكها، وصيّة أبي نواسٍ:
متْ بداءِ الصّمتِ خيرٌ
لكَ من داءِ الكلاَمِ
حينذاكَ:
أكتبُ إليها بالحبرِ السّريّ عن رغبتي الأخيرةِ متّحِدًا مع أحدِ المنفيّين داخل رؤوسِهم، من أصفيائي، المتراوحينَ بين قاعِ إنسان لا يحيا وسطح إلهٍ، ماتَ، ف. نيتشه :
‘ أماكنُ لمزاولةِ الصّمتِ، فسيحةٌ وممتدّةٌ، مهيّئةٌ للتّأمّلِ’.
ألم يَنْعَنا أبو العتاهيّة، قبلَهُ:
قد يسلَمُ المرءُ ممّا قد يُحاذِرهُ
وقد يصيرُ إلى المكرُوهِ بالحذَرِ
6
لا أتذكّرُ الآنَ من قالَ إنّ كلَّ حقيقةٍ قيلتْ مرّتينِ، هي كذبةٌ.
لعلّهُ أنا /
الهائم في يَبابِ الظّنِّ
دائماً
المدّعي ريَّ الحجارةِ وتعشيبَ الهواءِ
أحياناً.
ربّما كانَ ذلك وحدَه كافياً ليشرّعَ لي حريّة الذّهابِ والإيّابِ بين يقينينِ، تتوسّطُهُما كذبةٌ أيضا:
الشّعرُ، بديلاً عن حياةٍ ممتنِعَةٍ برئتين فقط، تصلُحانِ أيضا، للموتِ.
فما الّذي يفصِل إذا بين السّلوى والبلوَى، فيمَا الشّاعرُ خيطُ دمٍ لا غير، يتِّكئُ على هواءٍ، أمام أعداء ، يحبّونه أيضا، مُدجّجين بالحقائق والأوهامِ معًا، بالمعادنِ والأعشابِ في الحدائقِ والوقائعِ الافتراضيّة المحيلة العقلَ على جنونه المعولم:
احتواءُ الوهمِ، أيضًا، باعتباره لحظةً جدليّةً في كرنفالِ المعرِف لعلميّةِ.
فهل يجرُؤ الشاعرُ على قلبِ شرْطهِ الأنطولوجيّ ذاك، فيقول: كلّ كذبةٍ قِيلت مرّتينِ، هي حقيقةٌ.
وهل يكون الشّعرُ، تبعًا لذلك، الحقيقةَ الأخيرةَ فعلاً، كما ادّعَى الإنسانُ مُذ قدَحَ فِتنةَ القولِ الأولى؟
ربّما ذا قد حصَلَ طويلاً، وما ترديدُ الأسلافِ أنّ ‘ أصدقَ الشّعر أكذبُه’ إلاّ تطرّفًا في الانتصارِ إلى ‘مصداقيّة’ الشّعر دون مواجهةٍ تراجيديّةٍ لحدودِ العقلِ، مواجهةٍ أجّلَتها بنيةٌ ذهنيّةٌ مستقرّة، لا تزال كذلك، لم تتحاور مع مُطلقاتها الدّينيّة كما الزّمنيّةِ، رغم تجارُبِ العقلِ السّلفيّ والحداثيّ على السّواء، مواجهةٍ لم تخُضْ حربَها بعدُ ضدّ نفسِها، أوّلا وأخيرا، لتَلقَى هباءها في مغامرة الأقاصِي، خارج مؤسّساتِ المعنى!
7
قد لا يصحّ القولُ :
فاتنَا القطارُ، لسبب عابر:
لا قطارَ.
العاقِلُ حاكمٌ ضالٌّ في عقلٍ يدّعيه للجميعِ.
الواهِمُ محكومٌ، ضالٌّ أيضا في وهمٍ يحتكرُهُ لنفسهِ ويدّعي ‘فائضَ معناه’ للجميع أيضًا.
إنّهما يتنازَعانِ على رؤوسِ القطيعِ العامّ، يتناوبان قهرًا و(أو) طوعًا على تملُّكِها حينًا وعلى إنكارِها حينًا آخرَ، يتَوازيانِ ويصطدِمانِ، فيمَا يجنُّ الشّاعرُ و لا يتعقّلُ الحاكمُ.
فتبّا ثانيةً!
8
ألمْ أقل إنّني أتراوحُ بين اللّغةِ واللّغوِ
أتآكلُ داخلي،
بين البيانِ والبرهانِ
أتطرّفُ في كليْهِما فيلتقطُني
موظّفُو المشارِحِ/
شرّاحُ المسالِخِ الهيروغليّفيّةِ
قرّاءُ الكفِّ/
العلمانيّون، أيضا.
القاعدون على المنَحِ الطّارئةِ والوعودِ باستقبالِ الطّرودِ والوفودِ..
فيما أنا،
الحاسي سُمّهُ بيدِهِ،
أمشي،
واقفًا.
إلى حتفي.
أستحلِبُ ترَفَ الفقرِ في جمجُمةٍ
تثقبُها أوهامٌ.
أحذرُها،
فأصيرُ إلى مكارِههَا
بالحذَرِ!
*شاعرٌ سابق، تونس
صفاقس الغربيّة
( القدس العربي )