تحد تثقيفي تاريخي أمام الجميع


* علي محمد فخرو

الذين آمنو ويؤمنون بأن مطالب الديمقراطية التي انطلقت منها ثورات وحراكات الربيع العربي، لن يوهنها الزمن ولن تطفئ جذوتها عثرات المراحل الانتقالية، يحتاجون أن يمعنوا النظر فيما يمكن أن يكون أصعب وأعقد تحد يقف في وجه الانتقال العربي نحو الديمقراطية . هذا التحدي يتمثّل في نوع العقلية التي يتعامل بها الإنسان العربي مع محيطه الاجتماعي، ذلك أن بناء وترسيخ وتطوّر النظام الديمقراطي في أيّ مجتمع يتطلّب وجود عقلية مجتمعية عامة تتعامل مع الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية من خلال الآتي:

القدرة على التحليل الموضوعي الناقد تمهيداً للتجاوز نحو الأفضل والأكثر قبولاً، وممارسة المرونة والتسامح والاحتواء في التعامل مع القضايا ومع الآخرين، وممانعة الانزلاق نحو الخضوع للغرائز والانفعالات البدائية، والعيش في الحاضر والبناء للمستقبل، والرفض التام لممارسة الإقصاء والتهميش لأي جماعة .
السؤال المفصلي الذي يجب أن يطرح وأن يجاب عنه من دون الالتفات إلى ما قاله ذلك المستشرق المتحامل أو ذاك المستغرب المسحوق هو الآتي:
هل إن العقلية العربية التي كوّنتها معتقدات وأفكار وعادات وسلوكات وتصورات وممارسات المجتمعات العربية عبر القرون، ستكون قادرة على أن تختزن داخلها متطلبات العقلية التي من دونها تفسد الديمقراطية في المجتمعات؟
الذين كتبوا عن خصائص العقلية العربية، وهم كثيرون، أبرزوا الخصائص التالية لهذه العقلية: إنها عقلية تبالغ في تمجيد الماضي ورموزه لتقع في النهاية أسيرة فكر وممارسات ذلك الماضي الذي تؤدّي عدم دراسته بصورة موضوعية ناقدة إلى هيمنة الماضي وشلل الحاضر، إنها عقلية لم تستطع غربلة تراثها لتتجاوز قاعدته المبنيّة على تصور رأسي للعالم .
لا أعتقد أنه وجدت مجتمعات تتشابك فيها إلى أقصى الحدود هيمنة التاريخ مع هيمنة التراث، ما أدى إلى حالة من الإرباك في عقلية المجتمع، مثلما حدث في المجتمعات العربية .
إشكالية اختلاط التاريخ بالتراث، كما يؤكّد كاتب الفلسفة البريطاني أ .س .غريلنغ، أنه في حين أن دراسة التاريخ يمكن أن تكون مفتوحة وشاملة وتهدف لمعرفة الحقيقة فان التعامل مع التراث ينطلق من اعتقادات إيمانية شبه مقدسة لا تتردّد في أن تتلاعب بمادة التاريخ حذفاً ومبالغة واختراعاً وتشويهاً لتبني أساطير حول هوية الأمة أو أصولها أو ولادتها . ولذلك يلحُ هذا الكاتب على وضع حاجز بين التاريخ والتراث ليسهل التعامل مع كل منهما .
موضوع دور التاريخ والتراث في تكوين العقلية العربية ليس موضوعاً أكاديمياً، إذ إننا نعيش تأثيرهما في كل مناحي حياتنا اليومية وفي كل نظراتنا للأمور، بما فيها السياسة، وبالتالي بما فيها محاولة الانتقال إلى نظام ديمقراطي .
هنا نواجه مشكلتنا الحقيقية، ذلك أن تاريخنا وتراثنا قد ارتبطا عبر القرون بفكر وممارسات تتلخص بخوف من مساءلة السلطة، وبهيمنة ذكورية على المرأة وتشكيك في قدراتها العقلية والنفسية والحياتية .
والنتيجة لكل ذلك هو بناء عقلية لا ترى مشكلة في الظلم ولا في الاستبداد ولا في الفروق المعيشية المعيبة بين الناس، ولا حتى في أنواع العبودية لشتّى أنواع السلطات والرموز، وعلى الأخص في حقول السياسة والدين والاجتماع . لنستذكر قول المهاتما غاندي الشهير بأن “الحرية والعبودية هما حالات عقلية ذهنية”، لنرى ما فعل التاريخ بنا .
والحل؟ هل نستسلم لذلك القدر، قدر إملاءات العقلية المملوءة بالعلل التي كوّنها ذلك التاريخ؟ الجواب القاطع هو كلا . أولاً، لأن هناك الكثيرين ممن عملوا منذ القرن التاسع عشر لإخراج العقلية العربية من المنزلق الذي عاشت في قاعه عبر القرون . لكن تلك المحاولات ستحتاج إلى سنين إن لم يكن إلى قرون .
وثانياً، هناك حاجة ملحّة في اللحظة الراهنة، لحظة ما يسمى الربيع العربي في صعودها وهبوطها، لإقناع أكبر عدد من جماهير الأمة العربية باختزان على الأقل الحد الأدنى من متطلبات الانتقال الديمقراطي في عقليتها الجمعية، بمحاولة القبول، إبان الفترة الانتقالية التي تعيشها الأمة حالياً، بتعايش تلك المتطلبات الديمقراطية مع ما ترسّب في الذهنية العربية عبر العصور من متطلبات، ومن مقولات التاريخ المملوءة بالأخطاء والعلل، نؤكّد مرة أخرى بالاكتفاء حالياً بتعايش متطلبات الديمقراطية مع المتطلبات الأخرى التي بناها التاريخ والتراث، وليس الحديث عن الاصطدام والتضاد والاجتثاث بين تلك المتطلبات .
عملية الإقناع تلك هي التحدي الأكبر أمام جميع العقلاء ومستعملي شبكات التواصل الاجتماعي . إنه تحدّ تثقيفي تاريخي عسير، يتطلب الكثير من الحكمة والصبر، ولكن مواجهته أصبحت ضرورة حياتية . 
________
*الخليج

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *