“الطّرف المرتحل” لمحمّد الشحري، عتبة أولى لعالم ابن فضلان


*شوقي برنوصي

( ثقافات ) 

“قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ” سورة العنكبوت. يعجّ التراث العربي بعديد الكتب والسير التّي تتناول رحلات عديد الشخصيّات، نذكر فقط أحمد بن فضلان البغدادي، الشريف الإدريسي، ابن بطّوطة الطنجي، ياقوت الحموي، وغيرهم. حتّى في تراثنا القرطاجي لتونس لا بدّ من ذكر حانّون الرحالة الذّي يقال أنّه وصل إلى الغرب الافريقي في 500ق.م.
عمان، موطئ واحد من أشهر الملاّحين الرحّالة والجغرافيّين العرب ، أحمد بن ماجد، وقد ارتبط اسمه بفاسكو دي غاما مكتشف الطريق البحري إلى الهند. هذا التراث الذّي ميّز ويميّز العرب وعمان بالتحديد نظرا إلى موقعها الجغرافي لا يثير استغرابا حين نرى كاتبا عمانيّا يتوغّل في هكذا مغامرات. محمّد الشحري، من مواليد 1979 بظفار العمانيّة. صحفي وكاتب بعديد الصحف والمجلاّت(نزوى، القدس العربي،الرؤية العمانيّة). أصدر مجموعة قصصيّة بعنوان “بذور الدوار” سنة 2010. كما أنّه معدّ برنامج اذاعي بعنوان “النفائس المقتبسة” في الإذاعة العمانيّة وصاحب مدوّنة “ذاكرة ظفار”، هذا إلى جانب نشاطاته وخبراته في مجال حقوق الإنسان في عمان والعالم العربي. 
محمّد الشحري كان ضيف غرفة نهج السرد،مختبر الكتابة الذّي يديره الروائي كمال الرياحي، في حلقته يوم الجمعة 17 جانفي2014 ، بفضاء دار الثقافة ابن خلدون، وذلك لنقاش إصداره الجديد “طرف المرتحل” وهو كتاب في أدب الرحلة، صادر عن دار الفرقد الدمشقيّة. وهي تقدّم رحلة قام بها رفقة زوجته عبر قارّتين وخمس دول، هم على التوالي اسبانيا، فرنسا، ايطاليا، تونس والجزائر. 
خليط بين الانبهار والوقوف على الأطلال، شعار يمكن أن نطلقه على وصف محمّد الشحري لرحلته إلى اسبانيا، فبين اندهاشه أوّلا بروعة مدريد المدينة التّي لا تنام(مجريط بالعربيّة) ، طهارة وقداسة تينريف(جزر الكاناري) كما يقول. يغيّر الكاتب عباءته في وصفه لمروره المليء بالشجن بين قرطبة وغرناطة وكأنّه لبس عباءة أبو البقاء الرندي، في صيغة النثر. فبين تذكّره لقصّة حبّ ولاّدة بنت المستكفي وابن زيدون، نراه عاشقا. في تكبيره وسط فضاء الجامع الكبير بقرطبة وفي استحضاره لروعة المعمار في غرناطة نراه متحسّرا على ضياعها،إذ يقول “سحبتُ نفسي من المكان مكتفيا بالسلام على من عمّر العمران ومن يحافظ عليه الآن، ولملمت ما تبقّى منّي للخروج من قصر الحمراء”.
ضمن وصفه لرحلته إلى مدينة باريس أو مدينة الهياكل الحديديّة كما يقول، نستشفّ إن صحّ القول خيبة أمله، بين ما قرأه بين الكتب في وصفها وبين ما رآه. وليس كمن سمع كمن رآى. يقول”بدت لي باريس حين زرتها كعجوز تقاوم الشيخوخة بوضع المساحيق أو كرجل يسوّد بياض شعره”، لكن ذلك لم يمنعه ليتمتّع ببعض تراثها مثل وقوفه على رواية “أحدب نوتردام” لفكتور هوغو عند زيارته للكنيسة التّي تحمل نفس الاسم. وهي فرصة كذلك لنقد الوضع الثقافيّ العماني خلال تذكّره للمكتبة التّي قرأ فيها هذه الرواية التّي تحوّلت إلى محلّ لبيع الآلات الكهربائيّة. فباريس بالنّسبة له أجملُ في الأدب.
بعد باريس يزور الكاتب البندقيّة، موطن ماركو بولو الرحالة الشهير،فبين تجواله بين أزقّتها المائيّة وجسورها خاصّة جسر اللاّعودة والآهات. وبطبيعة الحال تجده يوظّف مسرحيّة “تاجر البندقيّة” لشكسبير لعرض موقفه من الصهيونيّة. يتميّز هذا المقطع من العمل بشعريّة عالية “وحين ركبنا القارب أو الحافلة المائيّة أمطرت السماء بغزارة فتبلّلت الخريطة التّي بحوزتنا، فأصبحنا بين مائين ماء ينزل علينا وماء تحتنا، وحلّ الظلام في المدينة، وكنّا كالأجنّة نسبح في فضاء الرّحم”
بعد البندقيّة، وفي طريقه إلى تونس، يمرّ الشحري على بالارمو التّي يلقّبها بمقذوفة ايطاليا إلى البحر، والتّي ورغم ما تحمله من روح للثقافة العربيّة الاسلاميّة خاصّة في معمارها، لكنّها تجرّدت من كلّ شيء سوى القذارة والانطباع السيّء للزائرين عنها.
في الجزء الأخير من كتابه، ينقل لنا الشحري عشقه لتونس، والذّي ولد فيه من خلال أستاذ تونسيّ درّسه في ظفار، فقرّر أن يزورها ردّا للجميل وتبية لرغبته في الاطّلاع على ثقافة البلد. كانت زيارته الأولى فرصة للتعرف على عديد المدن التونسيّة(سيدي بوسعيد، قرطاج، تونس العتيقة، المهديّة…)، كذلك التراث الغذائي وابرز المعالم. عشق من الزيارة الأولى جعله يدرس الماجستير في معهد التنشيط الثقافي والشبابي ببئر الباي. ثمّ ينتقل بنا الكاتب إلى الجزائر، متذكّرا من خلالها عديد الأحداث التاريخيّة والمعالم التّي اطّلع عليها هناك مرورا بقصبة الجزائر العاصمة ثمّ وهران أين ينتصب تمثال لعبد القادر الجزائري. 
وفي سؤاله حول إضافة أدب الرحلة في ظلّ التطوّر الرقمي، فإنّ يقول أنّه رحلة في البحث عن الشعور الإنساني للرحّالة عند الكتابة حول عالم جديد، قبالة تراث مغاير ونكهات أخرى.
بعد الحوار الثريّ مع الكاتب العماني محمّد الشحري، استمع الحاضرون لثلاث قصص قصيرة من أعضاء نهج السرد وتمّت مناقشة بنية الأعمال على المستوى الأدبي وتقنيات السرد. القصص على التوالي: “حلم جسد” لهشام الرضواني(غرفة نيتشة)، “رسالة رسّام يشعر بالوحدة إلى أخته” لأريج الإمام(غرفة فان غوغ) و”أنا الجميلة الحمقاء” لسلمى الصيد(غرفة مارلين مونرو). 
يقول الكاتب الأمريكي البريطاني ت.س. اليوت “ارتحلوا… انطلقوا أيّها الرحالة، فأنتم لستم نفس الأشخاص عند بدء الرحلة”، من هذا المنطلق سيتناول أعضاء نهج السرد في الحلقة القادمة، يوم الجمعة 24 جانفي 2014 عالم ابن فضلان الرحالة العربي المشهور، كحافز للكتابة في أدب الرحلة. 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *