حوار: عبد الرزاق بوكبة
يعترف الروائي الجزائري واسيني الأعرج أنه بات يتعاطى الكتابة على أساس أنها حرفة تتطلب الجلوس ساعات خلف المكتب يوميا، ويقر للمشرق العربي -خاصة سوريا- بأنه علمه اللغة العربية وهو القادم من بيئة تشربت الفرنسية بفعل الاستعمار.
ويرى الكاتب الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب لسنة 2007، أن هناك جيلا روائيا جزائريا مبدعا، غير أنه بحاجة إلى الاطلاع على تجارب العالم حتى يموقع نفسه بشكل صحيح، ويشير إلى أن علاقته بالتاريخ -وهو يكتبه روائيا- تقوم على الاختراق لا المحاكاة.
ولا يخفي واسيني -الذي يعيش بين الجزائر وفرنسا أستاذا في جامعتي السوربون والجزائر العاصمة- احترامَه لرغبة ناشره في أن يرشح أيا من رواياته لأية جائزة، حتى وإن لم تحظ بالفوز، مثلما حصل له مع بوكر العربية التي وصل إلى قائمتها الطويلة ثلاث مرات.
ويبقى الانشغال الأعظم بالنسبة لصاحب “أصابع لوليتا” هو الكتابة التي أنجز فيها تجربة سردية مهمة، وما الجوائز وترشيحاتها سوى محطات صغيرة في المسيرة الطويلة للإبداع. الجزيرة نت حاورت الروائي الجزائري حول تجربته السردية وعلاقته بالجوائز.
حين تلتفت اليوم إلى خطواتك الأولى في الرواية (إنه عمر روائي. أليس كذلك؟) ما هي الرواية التي تتمنى لو كتبتها بشكل مغاير؟
– أقول دائما إن الحياة رهان جميل، يجب ألا يضيع في الفراغ، أحب الحياة التي أشتهيها لا تلك التي تفرَض علي. أحب ما كتبته لأن كل لحظة هي شكل من الحياة، وما اشتهيت كتابته هو رواية أمي وذاكرتها العظيمة و”تقرير إلى غريكو” لكازانتزاكي، ولو طلب مني تعريف الأدب والسيرة الذاتية لقلت إنه متجسد في “تقرير إلى غريكو”.
انخرطت منذ بداياتك في المشهد المشرقي، دراسة ونشرا وتتويجات، ما الذي يربط تجربتك بالتجربة الروائية في الجزائر؟
– كبرت وتكونت ونشرت قصصي وأولى رواياتي في الجزائر، ثم ذهبت إلى دمشق حالما بلغة عربية كنت دائما أبحث عنها وأنا القادم من مدرسة فرانكفونية، إذ كنا ندرس كل شيء بالفرنسية.
في دمشق كنت في العشرينات من عمري، وقد منحتني اللغة والحب والاعتراف. من يومها بدأت أنشر بين بيروت ودمشق، وأنا اليوم أنظر إلى المسألة خارج ثنائية المغرب والمشرق، ولكن داخل أفق لغوي موحد، أي كعربي يكتب في مساحة عدد سكانها ثلاثمائة مليون.
تثار في كل مناسبة أدبية في الجزائر نقاشات حول قدرة الجيل الجديد على التجاوز، وقلما تخوض فيها، كيف تتلقى كتابات الجيل الجديد؟
– إن سبل النقاش عندنا في الجزائر غير مبنية على قواعد رصينة، وهي فرصة لتصفية حسابات قديمة تقوم على الغيرة والحسد. إنني لا أجد مكاني في هذا النوع من الحوار، لكني أتابع وأقرأ وأحاول أن أفهم انشغالات الجيل الجديد.
أسعد عندما أجد رواية أحد الشباب قد نجحت في أن تفرض نفسها بقوة، وهذا يعني أن في كل جيل أصواتا تتفرد، وأصواتا أخرى تعمل على تعطيلها من جيلها ومن أجيال سابقة لها.
لدينا تجارب مميزة كثيرا، فقط علينا أن نتواضع قليلا أمام الجهد البشري العظيم، ونطرح على أنفسنا هذا السؤال القاسي: ماذا نساوي في هذا العالم المعقد والجميل والمنتج.
لا تكفّ عن تغذية رصيدك الروائي بالجديد سنويا، علما أن رواياتك من الصنف الطويل، والموغل في التفاصيل، أي جهد يجب أن يبذله الروائي حتى يحقق إنجازا كهذا؟
– يجب أن يروض الكاتب نفسه على الجلوس وراء المكتب ساعات طويلة، وأن يقلل من تضييع الوقت. أنا محب للحياة بقوة، لكن وقتي موزع بين مدينتي الجزائر العاصمة وباريس.لا أتجول كثيرا في المدينة، وكلما كانت هناك مناسبة للفرح لا أضيعها.
في باريس وقتي صارم. أكتب كل الوقت، أصبحت الكتابة عندي مثل الحرفة. الآن بدأت أتعب وأفكر في كتابة سيرتي الذاتية لا لأنصح الآخرين، فالحيوات لا تتشابه، بل لأقول إني مررت من هنا.
لك أكثر من تجربة في تناول الموضوع الواحد روائيا في أكثر من جزء، ومنها تجربتك في “رماد الشرق” التي وصل الجزء الثاني منها “الذئب الذي نبت في البراري” إلى القائمة الطويلة للبوكر، ما هي محددات هذا الخيار لديك؟
– هي ملحمة طويلة، تتناول هذا الشرق بالمعنى الحضاري في كافة تحولاته، وهذا يفرض قراءة جادة لهذا التاريخ، وهو ما قمت به. ليس من السهل أن تتناول مائة سنة من الحركة والنشاط والحروب والخوف والانتصارات الصغيرة.
أعمل على الفترة نفسها في حركتها. اشتغلت على الأمير عبد القادر في هذا السياق، وتعبت في العمل وجهزت تاريخيا الجزء الثاني الذي لم أكتبه.
لا أعيد إنتاج التاريخ ولكني أواجهه بالأدب، لأني على يقين أن الأدب هو السبيل الأوحد لكسر قدسية التاريخ الوهمية، لهذا نصطدم بمن يرفضنا وهذا من حقه لأننا في حقلين متضادين بين المقدس أي التاريخ والدنيوي أي الرواية.
يبحث بطل الرواية “جاز” عن أصوله، وتبنى الرواية على هذا البحث (تقريبا) وهي نزعة متوفرة في كثير من رواياتك: البحث عن الذاكرة، ما الذي تمثله لك الذاكرة ثقافيا وشخصيا؟
-“جاز” هو اختصار للجزائر، وإحالة إلى موسيقى الجاز، لأن أمه ذات أصول وطنية. تطرح “رماد الشرق” مشكلة الذاكرة ومشكلة الهوية بامتياز، وأعتقد أن الصراعات المعاصرة تنبني بقوة على ذاك، وإلا ماذا تريد إسرائيل من وراء تهويد القدس والكشف عن هيكل سليمان غير نفض التراب عن ذاكرة حقيقية أو اصطناعية.
هناك حرب غير مرئية وهي أقسى من الحروب المعروفة، هي حرب الذاكرة والثقافة، وهو ما لم ينخرط فيه العرب على الرغم من إمكانياتهم.
فرضت تجربتك نفسَها ثلاث مرات على الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) منذ تأسيسها، كيف تتعاطى مع الأمر؟
– أتعاطى مع الأمر بحكمة كبيرة وبتبسيط كبير للأشياء، ولا أجعل من الأمر أزمة كما هو هنا في فرنسا مع جائزة الكونغور. المسألة في النهاية تخص الناشر، من حقه عندما يطبع كتابا ويرى فيه بعض الحظوظ أن يرشحه لأن وصوله إلى القائمة الطويلة أو القصيرة أو الفوز ينعكس إيجابيا على الكتاب.
علينا أن نتعلم احترام رأي اللجنة كيفما كانت ملاحظاتها علينا. فنحن في النهاية لا نكتب للجوائز، ولكن نكتب لأننا نحب الكتابة.
أنا سعيد بوصول ثلاث من رواياتي إلى القائمة الطويلة وهي “البيت الأندلسي” و”أصابع لوليتا” التي فازت بجائزة الإبداع العربي، واليوم “رماد الشرق”. لكن ذلك كله محطة صغيرة أمام الانشغال الأعظم الذي هو الكتابة.