طواف حول شرفات الوجع


*عبدالكريم الساعدي

( ثقافات )

– لم يبق أمامك غير ليلتين، راجع قرارك، لقد جهزنا كل شيء،سيتكفل بنا أخوة ، ينتظرون قدومنا عند الحدود.
ما كانت لي رغبة في الهروب، ربما تكون الغربة موت من نوع آخر، أو سجن أكبر مما نحن فيه، هكذا بدا لي الأمر، فأنا لاأرغب بالموت في غير الأرض التي أحتضنت وجودي حين قدمت من عالم مجهول.
المجهول نفق مظلم طويل بقدر أنفاس البشر، كنا منذ نعومة أظفارحبنا الأول للحياة، نطفيء غطرسة المستحيل في ضوء الفجر، وبعد أن تعثرت أحلامنا الممتدة عبر تاريخ الكون بشهوات البهائم الآتية من مزبلة الخراب ، التي لاتعرف غير الخديعة والمكر، لاتعرف غير القتل والكراهية، التحفنا وعورة الطريق بالعشق والأمل. كنا كفراشات حبّ ملونة تطوف حول حقولٍ الغضب الخاوية، تنفخ بحمرتها نسيم الأنعتاق، خيال المآته المنتشر بين حقولنا المعتقلة ينش بعصاه أحلامنا. هوة عميقة بعمق الجراح الغائرة في متاهات الزمن بين أحلامنا وواقع الهروب من صمت المهاجرين من مواقد العشق الى شطآن الغربة التي اختصرتهم في حرف عقيم لاينجب غير النفخ في رماد غادرته جذوة الأشتعال . وعلى ضفاف المأساة كنا نصغي لوحي مزّقته أمزجة ريح الصمت العاتية ، وكلما اقتربنا من همسه قذفتنا أمواج الظلمة بعيداً ، فسقط الكثير منا في متاهات الضياع نرتشف أنفاسنا من كأس الخمور المعتقة بالخدر، فنعيش أحلام يقظتنا السائرة على يسار الطرق التائهة وسط نزيف دمائنا الحمراء ، نصارع أمواج الغرق وسط شهيق ملؤه الوجع ، نتنفس زحمة المتنبي شعراً، وتحت سقف المقاهي تزهر خطوات التيه قصصاً تشع غضباً، تلملم بقايا آهات منكسرة فوق دموع الفقروالخوف .ثمة آخرون لم يستطع الظلاميون كسر أجنحتهم البهية ، ولا طمس ضياءهم المحفوف بظلام التعذيب ، حتى حبال مشانقهم الغليظة غير قادرة على كسر رقابهم، الهذيان الذي أبى أن يغادر صمتنا، صمت يشبه صمت الموتى ، يتلّون بلون البوح حين يلامس ظل أرواحهم السامية ، يمنحنا راحة الضمير ، فنلتحق بركب الحياة مرة أخرى. وحين طالت مراحل العذاب واستطال معها الموت وسط الحروب الملتهبة بشهوة الشيطان ، لم نكن سوى أرقام منهكة من سفر طويل ، اختزلتها المسافات . الحروب مثل مومس معترفة لاتعرف غير رفع الساقين إغراءاً لسلطان المال ، ومن شرق الشهوات ترسمنا بين السماء والأرض غيمة لاتلد غير أمطار الخيبة والأنكسار . ومابين عهر الحروب وبين طول مسافات الضوء المنكسر فوق أوجاعنا ، نبحث في زوايا مظلمة عن روحنا التائقة للأنعتاق من ظلام الجاهلية، نستشف أننا كمن يحدق في الفراغ بلا عينين ، ويبحث في التراب بكف مقطوعة الأنامل .لاشيء سوى بروق تتفحص المدى ، قافلة الأنتظار تلتهم ضجيجاً أخرس نبذته سنين الحرث ،تطوف الأحاديث حول مضجع كلاب الليل النابحة على نقيق الضفادع ،وظلّ وشوشة الحانات :
-جاء الفرج، ستعود طيورنا المهاجرة .
– أية طيور لاملامح لأفقها؟ ، إنّك تحرث الهواء يا صاحبي. ربع قرن من الجحيم ننتقل بين حفرٍ مظلمة ، منبوذين ، غرباء، الى منافي الغربة السوداء، طيور فضت ختم الفقر، وغرزت خنجرها في طوفان الويل، انتظار لاجدوى منه . انتفض صوت ملّه الأنتظار، ارتد طرفه ، تشكلت ذاكرته أطواق نجاة ،أهتز طرباً وهو يحلق في سماوات الحرية ، كفراشة حب ملونة تعشق الأحتراق:
– سنُعْتَق من عبودية الزمن المقرف، التهمت عيناه ما تبقى من كؤوس الفرح. نهض شاب متحمساً لسقوط جنون الذل، وسياطه التي ألهبت ظهور فتات أحلامهم اليقظة ، فأمطرهم بأخبار حربٍ جديدة تحررهم من أتون الرعب ، وتسقط كلّ الزنازين ورائحتها العطنة . وعبرمسافة من الزمن ممتدة من شرق البلاد الى ما وراء البحارتتوهج أسماء لاملامح لها، تتوسطها أجداث تدق أبواب هزائم لاتنضب. يحتجب الخوف خلف هذيان القذائف ولهاث الطائرات المرعبة ، راح البعض يصوب عيناه تجاه الفردوس، فينفجر داخل حلم قادم ، وآخر تلتمع ذاكرته بما تبقى من شهوته، على رغم أن رائحة الموت كانت تحدّق بنا ، الموت كائن منسي ، فائض عن زوايا النظر المحدقة بقادم الخطى المعتمة . القادم خلطة عجيبة من الموت والحياة، الفرح والحزن، ذاكرة متكأة على جروح متيبسة،وعيون ناطة صوب المجهول، لانعرف كيف تجرعناها!؟ تبزغ إنتصارات هنا ، وهزائم هناك، والناس سكارى تهرول بهم السنيين نحو سراب الظلمة واشتهاء نور الفجر. ولما انتهت طقوس الحفل، إحتفى المنزلقون من جادة الهزيمة بطيورهم المهاجرة-العائدة، التي راحت تنقر بمناقيرها الذهبية حبات الفرح ، لتغفو على أرائك وثيرة حالمة بالمدن الخضراء.لم يبق أمامك غير ليلة وجع، ما أنت قائل:
– الطيور التي ضربت بأجنحتها قطرات جباهنا، غادرتنا هاربة نحو المجهول،أصابتني الدهشة حين عادت إلى الوجع بلا وجع لتزيد أوجاعنا وجعاً من نوع آخر!. أمّا أنا ، اختنقت بظلّ صراخ موجع، لكنّي أدركت ( أنّي أسير مع الجميع وخطوتي وحدي ).

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *