السعودية بدرية البشر: المكان بطلي الحقيقي


* حاورها: هيثم حسين
( ثقافات )

تؤرخ الروائية السعودية بدرية البشر-التي رشحت روايتها “غراميات شارع الأعشى” للقائمة الطويلة للبوكر العربية مؤخرا- لذاكرة بلد، من خلال عينة مكانية تشهد على الحراك العام والتغييرات التي طرأت عليه من زمن لآخر. يتشعب عندها شارع الأعشى ليشمل شوارع كثيرة وأمكنة متناثرة، وليكون مثالا ومسرحا وعالما بذاته.
بالنسبة للبشر تبقى الرواية بالنسبة لها حياة موازية، تعايش شخصياتها، تعيش معها ما لم تعشه في واقعها، تقول إنها كانت تشم رائحة جدران الطين حين تصور أمكنتها، وتسمع دفوف العرس فوق السطوح، ترقص مع بطلاتها في الرواية.
تذكر أن الكتابة تمنحنا حياة أكثر غنى مما نحن عليه، وترى أن الحدود الرقابية الضيقة في بلدها كادت تجعل من الكتابة عن أي شيء “فضيحة”، وتعتقد أن الحل الوحيد لمن يريد أن يعبر عن أفكاره يتمثل في تجاهل تلك الخطوط الحمراء الكثيرة.
الجزيرة نت التقت الروائية السعودية بمناسبة ترشح روايتها “غراميات شارع الأعشى” للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكرالعربية)، وكان الحوار التالي عن عملها وجوانب من خطابها الروائي والحياتي.

ألم تشكل لك الفترة الزمنية المديدة تحديا في الرواية، ولا سيما أنك اقتفيت آثار ذلك بالتدريج وقدمت معالجة لتأثيراتها في المكان وحياة أبنائه والتغييرات المصاحبة لكل جديد أو طارئ؟
– بالتأكيد أن الفترة التي كتبت عنها، وهي حياة الناس والحارة في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، شكلت لي نوعا من التحدي، لكنني راهنت على أن المتغيرات في السعودية في تلك الفترة (الستينيات والسبعينيات والثمانينيات) لم تكن كبيرة.
فالمجتمع السعودي كان بسيطا وبعيدا عن وسائل الاتصال العالمي، والمتغيرات فيه محدودة وتأثيرها بطيء جدا، وتستطيع أن تقيسها في شخوص من عشت معهم من الآباء والأمهات، والأحداث ما زالت حاضرة في ذاكرتهم وتسمعها كل يوم.
كما أن لدي رسالة ماجستير عن نجد قبل النفط، استطعت أن أعرف منها كيف كان الناس يفكرون ويتحركون، والصعوبة لا تزال مخبأة لعملي القادم الذي أنوي أن أتمدد فيه إلى الأربعينيات.

عزيزة بطلة روايتك، تصف بساطة العيش وبراءتها في شارع الأعشى ثم تعقد الحياة بالتقادم تاليا، هل يعكس ذلك التضييق المتنامي أم أن لكل مرحلة عمرية رؤاها وتصوراتها؟
– رغم أن قانون التطور يعد بالتقدم لصالح الإنسان ورفاهيته وتمتعه بفرص أفضل فإن ذلك ليس واقعيا في حياة مجتمع محافظ انبثق النفط في أحشائه ليعده بالثروة والتنمية، لكن على شكل استهلاكي، بحيث إن الإنسان لم يعد منتجا لحاضره ومستقبله، بل أصبح متلقيا وحائرا حيال فهم هذه المتغيرات وخائفا متوجسا منها، ولا يرى فيها سوى الضلال.
وهو على سبيل المثال سجن المرأة في المنزل كي يحافظ عليها، بعد أن ساعدته الثروة على أن يستغني عن دورها في الحقل، وخروجها واختلاطها بالناس صارا مصدرا للانحراف، فكان الحل الأفضل أن يحبسها في البيت، ويصنع لها قيودا لها طابع الحرام والعيب.
ستجد أن “عزيزة” المتعلمة مسجونة في المنزل، وعالمها بسيط خالٍ من الحياة، فتعوضه بمشاهدة الأفلام، بينما “وضحى” البدوية التي احتاجت إلى النزول للسوق والاعتماد على نفسها أكثر حرية واختلاطا بالناس والحياة.

ثورات شخصياتك “عزيزة، مزنة، وغيرهما” وتمردها ينتهي بها إلى الندم وإلى مزيد من الاغتراب عن نفسها وواقعها، هل في ذلك إشارة إلى الاستنكاف عن التغريد خارج السرب ووجوب العودة إلى “بيت الطاعة”، أم ضرورة الإصرار والدأب على المحاولة للخروج من الطوق؟
– نحن نتخيل أن التجربة يجب أن تنجح كي تستحق أن تعاش، لكن هذا ليس صحيحا، الإنسان مجبول على حب المعرفة والتجربة، ومن حقه أن يجرب.
نمو الإنسان العقلي والمعرفي لا يتطلب فقط الذهاب للمدرسة والقراءة، بل أن يعيش التجارب كالحياة مع البشر والناس كي تكتمل فكرته عن الحياة، وكي يصل إلى حكمته الخاصة.

كل زاوية لديك في روايتك تحظى بدور فعال (السطوح، الشوارع، الأسواق، الدكاكين)، الخريطة المكانية مشغولة بدقة وعمق، هل ترومين توثيق ذاكرة المكان وأهله وتاريخهم؟
– لقد شعرت -وحتى قبل أن أكتب الرواية- بأنني شغوفة بأن أكتب عن حياة الحارة الشعبية، كنت أشعر وأنا أكتب بأن المكان هو بطلي الحقيقي، لدي ذاكرة قديمة لأماكن وأناس شاهدتهم، وشعرت بأن الرواية قد تكون مسرحا مناسبا لرصدهم وتصور ما كان غائبا منهم ستساعدني المخيلة على إتمامه.
كنت أشم رائحة جدران الطين، وأسمع دفوف العرس فوق السطوح، لقد رقصت مع وضحى في الرواية وانتشيت حتى دخت، وأنا لم أعش كل هذا في حياتي الواقعية، عشته في رواية، لهذا نحب الكتابة، إنها تمنحنا حياة لم نعشها وأكثر غنى مما نحن عليه.

عاينت واقع شرائح مختلفة من أبناء المملكة ومقيميها، تغلغلت في أجواء السوق ودواخله، وقد يقال إنك نشرت أسرارا وعرضت أفكارا تصنف في خانة الخطوط الحمراء، كيف تنظرين إلى واقع الرقابة؟ وكيف تتعاملين مع الرقابة الاجتماعية؟
– من شدة ضيق الحدود الرقابية في السعودية كادت الكتابة عن أي شيء تكون فضيحة، فقصة الحب فضيحة، والمطالبة بحق المرأة في اختيار الإنسان الذي تريد العيش معه خط أحمر، ورفض عزلة النساء والفصل العنصري بين عالم النساء والرجال -حتى في حدود العائلة والحارة- حرام.
من كثرة هذه الخطوط الحمراء صار عدم النظر إليها هو الحل الوحيد لمن يريد أن يعبر عما يعتقد، فالضجيج أحيانا لا يعالجه سوى التجاهل وأن تمضي في ما أنت فيه، كل إنسان يمتلك رؤية متى ما وجد طريقها من حقه أن يعبر عنها.

أشرت إلى ظواهر خطيرة تتفشى في المجتمع السعودي، كالتشدد والتحريم والتضييق، هل يمكن للرواية أن تقوم بدور تنويري في ظل واقع كهذا؟
– التنوير يكون أحيانا بالفهم أو المقارنة أو الوعي بالتاريخ الذي مضى وتحولاته، للرواية أهداف كثيرة أهمها إحداث المتعة بالفهم ومشاركة الآخر كي يصبح إنسانا وإشاعة مفاهيم الجمال والتذوق السليم.

ذكرت في تصريح لك أن وصول روايتك لـ”البوكر” كان ضمن أهدافك عام 2013، ماذا يعني لك اختيار روايتك من بين روايات كثيرة لتكون ضمن اللائحة الطويلة حاليا؟
– لقد حركت جائزة “البوكر” الماء الراكد في عالم الرواية، لقد كانت الروايات تصدر وكأنها لا تخص سوى أصحابها ومن يدور في فلكهم، ولم يعد أحد يثق بأن روايته ستصل إلى القارئ المجهول، وهو من يهم الروائي.
“البوكر” صارت دليلا ومرشدا لنوع من الروايات والروائيين الجيدين، لقد منحت الروائيين أمل الخروج من عزلتهم الثقافية إلى فضاء أكثر شعبية وإنسانية، ووصولي إلى القائمة الطويلة كان أجمل خبر أهدي إليّ في مطلع هذا العام الجميل.
____________
*الجزيرة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *