حوار مع الروائي التونسي الحبيب السالمي


*خلود الفلاح

( ثقافات )

يقول الروائي الحبيب السالمي هناك أسباب عديدة تدفعنا إلى الكتابة. أغلبها غامض وينتمي إلى منطقة اللاوعي المعتمة. لكن يمكنني أن أقول إنني أكتب لأزداد معرفة لنفسي وللعالم الذي يحيط بي. الكتابة كما أعيها وأتمثلها هي أيضا انتصار على العابر. إنها شكل من أشكال مقاومة الموت الذي نعيش داخله وبه منذ أن نأتي إلى هذا الكون.
الكتابة عنده فعل حرية، لا يشغله القارئ أثناء الكتابة لانه مقتنع انه موجود في مكان ما وحتما سيجد في رواياته ما هو وثيق الصلة به، رغم إقامته الطويلة بباريس مازال يكتب باللغة العربية ويعشقها. 
رشحت روايتاه “نساء البساتين” و”روائح ماري كلير” ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عامي 2009 و2012 ، وبمناسبة صدور روايته الجديدة “عواطف وزوارها” حديثا عن دار الآداب(بيروت) كان لنا هذا الحوار.
* في روايتك الأخيرة “عواطف وزوارها ” هناك أكثر من محور للسرد. هناك الماضي والحاضر للشخصيات بين تونس و فرنسا. برأيك هذه المستويات المتعددة للسرد تمنح العمل فرصة قراءته بأكثر من رؤية؟
ـ في كل رواياتي الماضي والحاضر يمتزجان لسبب بسيط وهو أن الحياة التي تشكل المادة الأساسية لما أكتبه تستدعي هذين الزمنين وتحيل إليهما باستمرار. لا وجود للماضي خارج الحاضر ولا حاضر بدون ماض. هناك تداخل بينهما وحركة ذهاب وإياب منهما وإليهما لا تتوقف أبد. ولو تأملنا الأمر قليلا لاكتشفنا أن الزمن الوحيد الذي يمتلكه الروائي حقا ويستطيع أن يشتغل عليه فنيا هو الماضي لأن المستقبل هو زمن مؤجل باستمرار. أما الحاضر فهو يتحول بمجــــــــــرد حضوره إلى ماض. 
هذه التداخل بين الأزمنة وهذا السفر بين الأمكنة يتيحان بالطبع إمكانيات توسيع آفاق السرد مما يجعل تعدد القراءات ممكنا. ولكن هذا التعدد ناتج أيضا عن حضور الشخصيات وهي كثيرة في هذه الرواية وعن شبكة العلاقات التي نسجتها بينها وعن التطور الذي شهدته هذه العلاقات. هناك حب وصداقة. هناك تواطؤ وتنافس. هناك أسرار وفضائح. وبالرغم من أن هذه الشخصيات تنتمي إلى ما يمكن أن نسميه “وسط مثقفين ومتعلمين” فإن مساراتها الحياتية مختلفة. كل شخصية تجر وراءها ماضيها. من هنا هذا التباين في الرؤى والمواقف والأفكار خصوصا في مسائل مهمة كالهوية والدين والجنس وعلاقة الأنا بذاته وعلاقته بالآخر..
* في روايتك “نساء البساتين” كتبت عن المجتمع التونسي المعاصر من خلال عالم عائلة من الطبقة المتوسطة. هل يهمك كروائي البحث في الحياة بمجرياتها اليومية لإنجاز عمل ما؟ وهل يمكن للأدب أن يؤثر في هذه الحياة؟
ـ أعتقد أن البحث في الحياة بتفاصيلها ضروري في الكتابة الروائية لأن الحياة لا تتجلى في الأفكار الكبيرة فقط وإنما أيضا في التفاصيل. وأحيانا تكون هذه التفاصيل حين نعرف كيف نستنطقها ونسألها ونوظفها أكثر دلالة وأهمية من الأفكار العظيمة .
“نساء البساتين” تقارب عالم أسرة تونسية متواضعة وهي تتدبر أمر حياتها اليومية. لكن من هذا العالم الصغير تنفتح الرواية على عالم أكثر رحابة وتعقيدا تتجلى فيه أوجاع المجتمع التونسي وهمومه وتناقضاته. كتابة هذه الرواية هاجس لازمني لعدة أعوام. كان لا بد أن أكتبها كي أصف الدمار الذي لحق بالمجتمع التونسي بعد سنوات عديدة من حكم بن علي.
هل يمكن للأدب أن يؤثر في الحياة؟ طبعا. لكن ليس بالشكل الميكانيكي السريع الذي يتصوره بعض الحالمين. وفي الحقيقة لا أحد بمقدوره أن يقول كيف يتم ذلك. لأن هذا التأثير بطيء جدا وله إيقاعه الخاص ويتوقف على من يقرأ هذا الأدب. ثم إن هذا التأثير قد يتخذ أشكالا لا نتوقعها.
* رشحت روايتاك “نساء البساتين” و”روائح ماري كلير” ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عامي 2009 و2012 ، برأيك هذا الترشح زاد عدد قراء السالمي؟ وعلى المستوى الإنساني ماذا تضيف الجوائز للمبدع؟
ـ نعم. عدد القراء تزايد فقد صدرت هاتان الروايتان في طبعة ثانية بعد إدراجهما ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر. أما بخصوص الجوائز فأنا لا أعتقد أنها تضيف شيئا مهما للكاتب على المستوى الإنساني. الكاتب الحقيقي لا تغيره الجوائز أو التكريمات التي تكاثرت في الأعوام الأخيرة خصوصا أن الكثير من هذه التكريمات الجوائز العربية فقدت مصداقيتها. 
وعلى أي حال المبدع الحقيقي لا يفكر بتاتا في مثل هذه الأمور حين يكتب. ما يهمه بالأساس هو الكتابة. 
* ترجمت رواياتك إلى عدة لغات أجنبية. هل تعتبر هذه الترجمة مفتاح الوصول لقارئ مختلف خاصة وأن أعمالك تدور أحداثها في أجواء عربية وأحيانا تونسية؟ 
ـ أعتقد أن الهدف الأساسي من الترجمة هو الوصول إلى قارئ جديد. والقارئ الذي يقبل على رواياتي يعرف أن أحداثها تدور في مناخات عربية وتونسية. لدي الآن مثل كل الروائيين العرب الذين ترجمت أعمالهم ترجمة حقيقية وصدرت عن دور نشر محترمة ومعروفة قراء في أوروبا خصوصا في فرنسا وألمانيا. لقد ترجمت لي خمس روايات إلى اللــــــغــــــة الفرنسـية وثلاث روايات إلى الألمانية. وفي العديد من الندوات ومعارض الكتاب التي دعيت إليها في فرنسا وألمانيا وسويسرا والنمسا وإيطاليا التقيت بهؤلاء القراء استمعت إلى آرائهم في رواياتي والرواية العربية عموما وأجبت عن أسئلتهم واستفدت كثيرا من ملاحظاتهم.
*هل مازال الكاتب العربي يعاني أزمة النقد؟ وماذا تقول عن تجربة السالمي مع النقد؟ وهل تعرضت رواياتك المترجمة للغات أجنبية للنقد؟
ـ أعتقد أن تجربتي مع النقد ليست سيئة إذا أخذنـا بعيـن الاعتبار كونــــــــي روائيا مغاربيا. فــــــي فترة ما كان النقد الروائي يركز على روائيي ما يسمونه “المركز”.لا أتحدث بالطبع عن نقد المجاملات الذي لا أحد يعيره اهتماما وإنما عن النقد الرصين. لكن منذ سنوات قليلة تغير الأمر إلى حد ما. كل رواياتي التسع بدءا من “جبل العنز” وحتى “عواطف و زوارها” حظيت باهتمام النقاد. ومن بين الذين كتبوا عنها نقاد مثل جبرا ابراهيم جبرا و محمد برادة ويمنى العيد وصلاح فضل وفيصل دراج.. 
وسائل الإعلام في الغرب لا تهتم كثيرا بالأدب العربي المترجم. في فرنسا مثلا أغلب الاهتمام ينصب على أدب العرب الذين يكتبون بالفرنسية. وإن اهتموا بالكتاب الذين يكتبون بالعربية فإنهم يركزون عموما على كُتاب المشرق العربي وتحديدا على لبنان ومصر. إنهم يتصورون أن كُتاب المغرب العربي يكتبون كلهم بالفرنسية. وبالرغم من ذلك فقد كتبت عن رواياتي مقالات في صحيفة “لوموند” ” و”لو موند ديبلوماتيك” و”ليبيراسيون”. كما أذيعت وبثت مقابلات معي في محطات إذاعية وتلفزيونية معروفة مثل “فرانس كيلتور” و “فرانس أنتير” و “تي في سانك”..
*هل يشغلك القارئ أثناء الكتابة؟
ـ لا يشغلني. لكني حين أكتب أعرف أن ما أكتبه سيقرئه قارئ ما. لا أعرف بالضبط من هو وكيف هو وما هي ثقافته وكيف سيكون موقفه مما أكتب. لكن أعرف أنه موجود في عدة بلدان. عربية وغير عربية. 
*هناك من يعتبر أن الروائي متواجد في شخصياته الروائية يخترعها، يعيشها، يكتبها، بحيث يكون له وجود متوار في عالم شخصياته. كيف ترى المسألة؟
ـ من الطبيعي جدا أن يكون الروائي في شخصيات رواياته بما أن هذه الشخصيات هي من اختراعه. وهذا الاختراع يتأثر بفلسفته في الحياة ورؤيته للعالم. أعتقد أن الكثير من عالم الروائي يتسلل إلى هذه الشخصيات رغم أنفه. فالكتابة في جزء منها هي عمل لا واع ينفلت منا ولا نستطيع السيطرة عليه حتى لو أردنا. لكن ما هو جميل وعميق في الكتابة هو أن ذلك لا يحول دون خلق شخصيات مختلفة لها مزاجها ومناخاتها الخاصة.
* يقول إميل سيوران “نحن لا نقيم في الوطن وإنما نقيم في اللغة” هل تتفق معه؟ وهل اختيارك الكتابة بالعربية “قرار” أم “اختلاف”؟ أقصد بهذا السؤال أنك تكتب بالعربية لأنها بنظرك متطورة وليس كما يقول عنها البعض بأنها لغة عاجزة لذلك ينصرف عنها الكُتاب الذين يعيشون في المهجر؟ 
ـ أولا أنا لم أختر العربية كلغة كتابة. الكتابة باللغة العربية أمر بديهي بالنسبة لي لأني لما بدأت أكتب كنت أقيم في تونس. كان بإمكاني فيما بعد لما انتقلت إلى باريس وصرت أقيم فيها بشكل دائم أن أغير لغة الكتابة خصوصا أن أغلب الكُتاب المغاربة الذين يقيمون في فرنسا يكتبون بالفرنسية. لم أفعل ذلك لأنه ليس من السهل أن يغير الكاتب اللغة التي يكتب بها. لا يكفي أن تتقن لغة أجنبية لكي تكتب بها. اللغة هي أعمق بكثير من وسيلة تعبير. اللغة هي الفكر. هي كل ما يحدد رؤيتك للعالم. وعندما تغير هذه اللغة فإنك تغير طريقة تفكيرك وطريقة سكنك العالم. الكتاب المغاربة الفرانكوفيون لم يكتبوا أبدا بالعربية. إنهم يختلفون تماما عن بيكت الذي كتب بالإنجليزية قبل أن يكتب بالفرنسية أو نابوكوف الذي كتب بالروسية قبل أن يكتب بالإنجليزية. 
نعم. نحن بمعنى ما نقيم في اللغة. الإنسان هو كائن لغوي بامتياز. أحب الفرنسية وأقرأ بها كثيرا. لكني أعشق العربية. أما الذين يقولون إن اللغة العربية عاجزة عن التعبير عن هموم العصر أو إنها غير دقيقة فهم لا يعرفون هذه اللغة ويجهلون عبقريتها وقدراتها الهائلة.
*هناك من يعتبر أن الرواية العربية تعيش أزمة.. أي أزمة كاتب و أزمة قارئ؟ بماذا ترد؟
ـ لا أرى أن الرواية العربية تعيش أزمة كاتب. لقد عرفت في العقدين الأخيرين تطورا واضحا إن على مستوى التيمات التي تنوعت شملت حتى ما كان يعد محرما أو على مستوى اللغة التي صارت أقل إنشائية وأكثر التصاقا بالواقع وأكثر تناغما مع التجربة الحياتية. وإن جاز الحديث عن أزمة فلنقل إنها أزمة قارئ. لا بد أن نعترف بأن عدد القراء للرواية في العالم العربي في تزايد بشكل واضح في الأعوام الأخيرة لكنة يظل أقل بكثير من عدد قراء الرواية في بلدان أوروبا. 
ولكن هذه مشكلة عامة يعاني منها الشعر كثيرا. أنا أحب الشعر وأقرأ دائما الشعر. ومن المؤلم أن نرى حضوره في حياتنا ينحسر إلى هذا الحد. الشعر أساسي جدا. والحياة لا تستقيم بدون شعر. 
* هل يمكن أن تخلق المشاكل التي تمر بها منطقتنا العربية أسلوبا جديدا في الكتابة الروائية؟
ـ ربما. لا أحد يستطيع التنبؤ بما ستصير عليه الرواية في المستقبل. من المؤكد أنها ستتأثر بما يحدث حاليا في العالم العربي وستتفاعل معه لأنها لا يمكن أن تبقى بمعزل عن التحولات التي تشهدها المنطقة حاليا. لكن أي شكل سيتخذ التفاعل وكيف سينعكس على الكتابة فهذا من الصعب معرفته الآن. التطور في الأدب وفي الفن عموما بطيء ولا يسير وفق خط مستقيم و يخضع أحيانا للإيقاع الداخلي السري للكتابة وأكاد أقول لمزاجها. 
* هل مهمتك كروائي تحقيق متعة القراءة للمتلقي؟
ـ لا أتصور أن متعة القراءة هي مهمة الروائي الأساسية. وهي ليست هدفا منفصلا عما يطمح إليه نص ما لكن كل رواية جيدة توفر متعة لقارئها. وعلى أي حال هذا يتوقف على القارئ أيضا لأن كلمة متعة ليس لها معنى دقيق واحد لدى كل القراء. هناك من يتمتع بقراءة روايات صموئيل بيكت وهناك من يجدها مملة. الأمر ذاته يمكن أن نقوله عن نجيب محفوظ وعن روائيين عرب آخرين. 
* لماذا لا تحب كلمة “حنين”؟
ـ أحب الاشتغال على الماضي.أحب السفر داخل ما ترسب في متاهة الذاكرة. أحب أن أزور كهوفها. لكني أنفر من الحنين لأنه يجمل الماضي وبالتالي يشوهه.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *