*لطفية الدليمي
يذكرنا ” توماس أوستلر” في سفره القيم ” إمبراطوريات الكلمة” بحقيقة أساسية لفهم علاقتنا باللغة باعتبارنا بشرا فيقول : ” إذا كانت اللغة هي التي تجعلنا بشرا ، فإنها هي التي تجعلنا بشرا متفوقين ” وأضيف إلى مقولة ” أوستلر ” وتجعلنا بشرا منحطين أيضا. ما يلاحظ على مجتمعاتنا المتشنجة العاجزة الخوافة والمستلبة ، أنها لا تملك من أسلحة مواجهة الكوارث سوى ” اللغة الهابطة ” لغة السباب والتجريح والفضح ، لغة شتم شرف الأم والأخت والعشيرة والطائفة والعِرق والقومية وصولا إلى شتم العمل الذي يمارسه المرء مهما كان راقيا أو عفيفا أو مضنيا.
يورد ” أوستلر” حكاية عن المؤرخ الأغريقي “بلوتارخ” الذي يروي قصة لقاء القائد الأغريقي ” ثميستوكليس ” الطموح مع الملك الفارسي ” أكسيركسيس” أو كسرى الذي واجه الملك الإسبارطي “ليونيداس ” وقتله ، إن كسرى سمح لثميستوكليس الإفصاح عما يدور بخلده بحرية تامة في ما يخص القضايا الإغريقية ، فأجابه ” ثميستوكليس”:
– إن كلام الإنسان يشبه السجادات الفاخرة الغنية بنقوشها التي لا تظهر أنماطها إلا عند فرشها وفتحها ، فعندما تطوى السجادات تختفي الأنماط فتضيع.
ثم طلب من كسرى أن يمنحه وقتا ، أعجب كسرى بهذا التشبيه البليغ ، فالسجادة الفاخرة رمز ثقافي فارسي مهم وقال له ،لك من الوقت ما تشاء ، فطلب الرجل مهلة سنة واحدة ، وبعد انتهاء السنة أتقن ” ثميستوكليس”: اللغة الفارسية بشكل كاف و تكلم مع الملك بلغته فأجاد.
2
سجادة الأحداث العراقية العجيبة عندما جرى فرشها لمحاربة الإرهاب كشفت أولا عن ضروب من الأداء السياسي المتناقض موسميا مثلما كشفت عن أنماط الخطاب الغرائبية المتسمة بالسفَه ِ والحماقة والتخوين والديكتاتورية والتجريح العلني مدفوعة بنزعات شوفينية وطائفية من الأطراف جميعها ، واستخدم الخطاب أسوأ الألفاظ وأشدها انحطاطا للنيل ممن يخالف في الرأي بين من يحسبون على فئة المثقفين أو مدعي الثقافة أو الفنانين على مواقع التواصل الاجتماعي والتعليقات في بعض المنشورات الإلكترونية وسواها.
انكشفت تماما طبيعة الأنماط الفكرية والنفسية والثقافية في المجتمع الذي أنهكته الحروب السابقة والاحتلال وتسلط الأحزاب الدينية على الساحة العراقية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وتبين أن نقوش السجادة العراقية التي أوهمونا بأنها تضم رسوما لزهرة الديموقراطية وعصافير الجنة وأشجار النعمة وفرسان الخلاص ،تبين أنها سجادة أصابها العث بمقتل وأن الثقافة السائدة في مجتمعنا المنكوب هي ثقافة محو كل مختلف وطرده من الفضاء العام لأنه لا يوافق نظرة فئة معينة لواقعنا الملتبس، وأشبعت الفضاءات الإلكترونية هبابا ونتانة وسخاما وسبابا حتى تلبدت السماوات بالسواد وتعالت نبرة الطائفية من كل نافذة وباب و أوصدت سبل الحوار والتفاهم في جو العصاب الشامل والهيستيريا والمعارك الكلامية التي تقودها جماعات من المثقفين والصحفيين والفنانين.
لقد ورث المشهد الثقافي أوراماً خبيثة يصعب استئصالها بقرار أو بحوار أو بقانون ، وتفجر قيحها الآن ولوث وجوه الجميع حين توارى مفهوم المواطنة أمام ادعاء الوطنية,وتهاوى مفهوم قبول المختلف أمام عنجهية الخطاب القائل بأنه مالك الحقيقة الوحيدة وانتحرت فكرة الشراكة الوطنية وتكسرت نصال الصراع اللغوي البائس على نصال الإرهاب في ضلوعنا وخواصرنا فأينما اتجهنا بأنظارنا حاصرتنا قذائف الموت والسيارات المفخخة والخطاب الملغوم والمواقف الانفعالية التي تلقي بزيت الخراب على وجه العراق الحزين.
نعم إن اللغة هي التي تجعلنا بشراً وهي التي تكرسنا بشراً متفوقين وعقلانيين مثلما تجعلنا حمقى وعاطلين عن حكمة الحوار.
_______
*المدى
شاهد أيضاً
فرويد وصوفيا في جلسة خاصة
(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …