*فيحاء السامرائي
خطوط ناعمة، ألوان باهتة، جسد أبيض شاحب، يغاير لونا قرمزيا لملابس تزهو بتفاصيلها ونقوشها، وخلفية دقيقة لمشاهد متنوعة مألوفة، كشجرة، وبيت وجدار وجلسة شاي وخادمات وزوجات غيورات.. تلك الملامح، أول ما يُلفت النظر فنيا في لوحات الـ”شن كا”.
الـ”شن كا” هو فن أنتجته اليابان ما بين عام 1600- 1900، ويعني لغويا، صور الربيع، باعتباره فصلا معروفا بإنجاب الحياة، حين تتفجر فيه غريزة الإخصاب حسب معتقدات يابانية، وتبتهج روحيا بانسجام جنسي، فتعمّ فيه بهجة وسلام وتآلف، دون تدخل من شعور بخطيئة أو عنف أو قسوة..
بين قبول ورفض
يشكّل هذا الفن في اليابان دليلا ومرشدا لحياة جنسية ضرورية لإدامة خلق ومخلوقات ولتحفيز جسدي غريزي، فيبين أعضاء ذكورية وأنثوية مبالغ بحجمها، كرمز جنسي ولتأثير نفسي أكبر، لكن مع وجود ملابس الكيمونو حيث تضفي رونقا و إغراء على اللوحات وللمتفرج.. يخاطب هذا النمط من الفن، رجالا ونساء مقبلين على زواج، وعشاقا مغرمين، يتلقفونه عبر كتيبات وتقويمات ومجسّمات في شكل رسوم دقيقة على ورق أو خشب.. إنه عالم فانتازيا سحرية لأنس واغتباط وابتهاج ومتعة ولذة، يحسن تعبيرا عنها، لتكون مستحبة اجتماعيا بغض النظر عن مفاهيم قاسية عنها في الأديان، مقوضا بذلك تعاليم كونفوشيوسية صارمة وطبقة حاكمة، إذ كان مسموح بالـ”شن كا” سنة 1722 بشكل مشروع، إلاّ أنها اعتبرت غير قانونية في حكم الساموراي، رغم أنهم لم يمنعوها، بل غضّوا النظر عنها، وظلت تطبع في كتب وصور، فللحب والعلاقات الرومانسية في عرف الكونفوشيوسية أهمية ثانوية، عكس الجنس، فإن التقاليد اليابانية تحتضن المتعة الجنسية لكونها طقوسا محببة وتسقطها من قائمة المحرمات، ولكنها تعود لتصبح “تابو” في القرن العشرين بعد الحرب الروسية اليابانية عام 1904 وتُمنع.
يحضر هذا الفن، فن صناعة المتعة، في المدينة، مجسدا حياتها حين يذهب الرجال إلى مساكن متعة معروفة تسمى “بالعالم العائم” تتناثر ما بين خانات وحانات ومسارح، كمسرح كابوكي، ومطاعم وبيوت شاي، تلك التي تمتلك صفة خاصة لدى اليابانيين لكون هذا الشراب التقليدي يصل في أهميته حدّ القداسة، وحتى في المواخير العامة، حيث أن الرجال غير ملزمين اجتماعيا بالوفاء لزوجاتهم، وأحيانا يتناول “شن كا” محظيات الطبقة الراقية والأغنياء والساموراي والتجار، حين يرغمون على الابتعاد عن زوجاتهم وعدم ممارسة الجنس بسبب انشغالاتهم لفترة مفروضة عليهم، فيصوّر فتيات الـ”كَيشا” وهن يرقصن ويغنين ويعزفن على آلة الـ”شاميسن” ويقمن بدورهن في تسلية النبلاء بالشعر والزخرفة، قبل أن تشوّه بائعات الهوى هذا التقليد بادعاء انتمائهن لثقافة الـ”كَيشا”.
أشهر من أنتج هذا الفن الرقيق والجميل الذي ترجع أصوله بعيدا إلى الصين القديمة، فنانا “العالم العائم”، “أوتامارو” و”هوكساي” وهو صاحب كتاب “زوجة الصياد” الذي لم يعد رسم الخط نفسه في لوحات عديدة رسمها بيده على الخشب، مع كتابات توضيحية نثرية أو شعرية ترافق صور ومنحوتات.. ومن أشهر هذه الكتابات في هذا المضمار، حكاية جينجي، كتبتها سيدة تدعى موراساكي في سنة 1000 بعد الميلاد، وتعتبر أول رواية سايكولوجية في العالم، تصف غرام امرأة لأحد الأمراء، فلا غرابة أن نجد وصفا لمشاعر امرأة تطيع رغبات الرجل قائلة: “لو كنت مستفزا ولا تعرف أين قلبك الحقيقي فأعطيك أنا جسدي”.. و”لأكون متوحشة وفاحشة لك”.
ملهمة بيكاسو
هذا الفن إذا، هو جانب فريد من حضارة عالم اليابان، لا يوازي ولا يماثل مفهوم البورنوغرافي، فن الإباحية في الغرب.. يمثل أحيانا بشكل مقصود محاكاة ساخرة للأدب والفن الجاد الراقي في مشاهد هزلية وأشعار وحوارات، كتحدّ لمنحى حياة عامة، أو كصناعة للترفيه، تغدو اليوم أكبر صناعة مربحة، وينحو الفن فيها إلى بساطة تخطيطية، أو فيما بعد إلى استخدام ألوان فاقعة بعد أن تغيرت الأذواق وامتلأت الجيوب بمال يوفر كلفة اللون.
استقطب هذا الفن اهتمام الغرب، وبالخصوص الرسام بيكاسو الذي أعلن عن حبه له وتأثره به، ولوحاته في “فولارد سويت” تترك بصماته، وكذلك قوله: ’’يمكننا من خلال الـ”شن كا” أن نرى كيف أن اليابانيين تذوقوا الجنس باعتباره مصدرا للاستمتاع والمرح والطافة‘‘..
ويقيم المتحف البريطاني اليوم، معرضا يتضمن 170 لوحة رقيقة من “شن كا” حتى الشهر الأول من السنة الحالية، تصوّر جميعها علاقة جميلة بين رجال ونساء ينجم عنها فرح إنساني، إحياء وتذكيرا بهذا الفن الذي أصبح جزءا من التراث العالمي بعد أن نافسه فن التصوير الفوتوغرافي المعاصر.
_______
*العرب