سوزان سونتاج لباريس رفيو : طموحي أن أصل إلى نثر الشعراء


حوار: إدوارد هيرش – ترجمة أحمد شاف


ـ هل تندمين على أي شيء كتبته ؟
ـ لا شيء بأكمله عدا مقالتين في المسرح كتبتهما في أواسط الستينات لـ بارتيسان رفيو، وضممتهما للأسف إلى أول كتاب مقالات لي وهو “ضد التأويل”، أنا لست مؤهلة لمثل هذه المهام الانطباعية الخلافية. كما أنني لا أتفق مع كل ما يرد في المقالات الأولى. لقد تغيرت، عرفت أكثر. والسياق الثقافي الذي أوحى لي بتلك المقالات تغير تغيرا تاما. ولكن لا جدوى من تعديلها الآن. أظن أيضا أنني لن أمانع إعادة تنقيح روايتيّ الأوليين.
ـ رواية “المحسن” التي كتبتِها في أواخر العشرينات، مروية على لسان رجل فرنسي في الستينات من عمره. هل كان سهلا عليك أن تتمثلي شخصا مختلفا إلى هذا الحد عن شخصك؟
ـ أسهل من الكتابة عن نفسي. ولكن الكتابة تَمَثُّل. حتى حينما أكتب عن أحداث في حياتي الشخصية، مثلما فعلت في “الحج” وفي “مشروع رحلة إلى الصين”، لا يكون ذلك أنا حقا. لكنني أعترف بأن الاختلاف في “المحسن” كان أكبر اختلاف استطعت الوصول إليه. فلم أكن عزباء، لم أكن انعزالية، لم أكن رجلا، لم أكن مسنة، لم أكن فرنسية.
لكن الرواية تبدو شديدة التأثر بالأدب الفرنسي.
ـ فعلا؟ يبدو أن هناك كثيرين يرون أنها تأثرت بالرواية الجديدة. لكنني لا أوافقهم الرأي. فيها إشارات تهكمية إلى كتابين فرنسيين، ليسا معاصرين إلا بشق النفس: هما “التأملات” لديكارت و”كنديد” لفولتير. ولكنهما لا يمثلان تأثيرات. لو كان ثمة تأثير على “المحسن”، وإن يكن تأثيرا لم أكن واعية به على الإطلاق في وقت الكتابة، فهو تأثير “نحو حياة أفضل” لـ كينيث بيرك. لقد أعدت مؤخرا قراءة روايته تلك، بعد عقود كثيرة (ولعلي لم أقرأها منذ أهداني نسخة منها وأنا في السادسة عشرة) واكتشفت في تمهيدها التصويري ما يشبه نموذجا لـ “المحسن”. الرواية بوصفها سلسلة ألحان وأفكار تخييلية. تدليل الشخصية الرئيسية ـ ولقد تجاسر بيرك حتى أطلق على الشخصية الرئيسية اسم البطل hero ـ على نحو شديد البراعة والاستغراق في الذات بحيث لا يجد قارئ أدنى رغبة لديه في التماهي معه.
ـ روايتك الثانية “علبة الموت ” مختلفة كثيرا عن “المحسن”
ـ “علبة الموت” تدعو إلى التماهي مع شخصيتها الرئيسية المسكينة. كنت في مزاج رثائي، فالرواية كتبت في ظل حرب فيتنام. هي كتاب حزن، وحُجُب وما إلى ذلك كله.
ـ وما هو بالشعور الجديد على شغلك. ألم تكن أول قصة نشرت لك هي “رجل ذو ألم”؟
ـ هذه بدايات يا رجل. لم تجد هذا في “أنا، إلى آخره”.
ـ كيف حدث أن كتبت تلك المقالات المسرحية لبارتيسان رفيو؟
ـ حسن، عليك أن تفهم أن السمة السائدة في الوسط الأدبي في ذلك الوقت كانت ما يعرف بالمجلات الصغيرة ـ صعب أن تتخيل الآن وقد تغير الوضع كثيرا. فهمي لمهنة الأدب تشكّل عبر قراءة المجلات الأدبية ـ كنيون رفيو، سيواني رفيو، ذي هدسن رفيو، بارتيسان رفيو ـ في أواخر الأربعينات وأنا لا أزال في مدرسة كاليفورنيا الجنوبية الثانوية. ولما حللت بنيويورك سنة 1960 كانت تلك المجلات لم تزل موجودة. ولكنها كانت نهاية المرحلة. وطبعا ما كان يمكن لي أن أعرف هذا. فكان طموحي لا يزال يتمثل في أن أنشر في إحدى تلك المجلات، فيقرأني خمسة آلاف شخص. كان ذلك يبدو لي النعيم المقيم.
بعدما انتقلت إلى نيويورك بقليل، رأيت وليم فيليبس في حفلة فلم أملك إلا أن أقوم إليه وأسأله كيف يمكن للواحدة أن تكتب في بارتيسان رفيو. أجاب، تحضرين إلى المجلة وأعطيك كتابا تعرضينه وأنت وحظك. في اليوم التالي كنت عنده. وأعطاني رواية. لم تكن رواية تهمني، ولكنني كتبت عنها شيئا لطيفا، ونشر المقال. وهكذا انفتح الباب. ثم حدثت فنتازيا سخيفة حاولت أن أمنعها، وهي أنني بت في طريقي إلى أن أكون “ماري مكارثي الجديدة” مثلما أوضح لي فيليبس حينما طلب مني أن أكتب مقالا مسرحيا. قال، ماري كما تعرفين هي التي كانت تكتبه. قلت له إنني لا أريد أن أكتب مقالات في المسرح. فأصر. وهكذا، وخلافا لرغبتي (وبالقطع لم أكن أرغب في أن أكون ماري مكارثي الجديدة، فهي كاتبة لم تعن لي شيئا قط) كتبت مقالتين عن مسرحيات لآرثر ميلر وجيمس بولدون وإدوارد ألبي قلت إنها رديئة وحاولت أن أستظرف وكرهت نفسي وأنا أفعل ذلك. وبعد الجولة الثانية قلت لفيليبس إنني لا يمكن أن أستمر.
ـ ولكنك استمررت وكتبت تلك المقالات الشهيرة، ونشر بعضها في بارتيسان رفيو.
ـ نعم، ولكن في مواضيع كانت جميعها من اختياري. نادرا جدا ما كتبت شيئا بتكليف. أنا لا أهتم نهائيا بالكتابة عن أعمال لا تعجبني. وحتى الأعمال التي أعجبتني .. كنت إلى حد كبير لا أكتب إلا عن الأعمال التي أراها مهمَلة أو مجهولة نسبيا. أنا لست ناقدة، هذه تختلف عن كاتبة المقال، وأنظر إلى مقالاتي بوصفها أعمالا ثقافية. كتبت انطلاقا من الإحساس بما ثمة احتياج إلى كتابته.
كنت أفترض أن مهمة الفن الأساسية هي تقوية الوعي العدواني. وساقني ذلك إلى الأعمال الغريبة نسبيا. كنت أعتبر من المسلمات أن الوعي الليبرالي بالثقافة ـ وكنت لم أزل أكِنُّ أعظم الإعجاب لـ ليونيل تريلنج ـ سيبقى قائما، وأن متن الأعمال العظيمة التقليدي لن يهتز أو يتهدد بعمل أميل إلى العدوانية أو الهزل. ولكن الذائقة فسدت في السنوات الثلاثين الماضية التي قضيتها في الكتابة حتى أصبح مجرد الدفاع اليوم عن فكرة الجدية عملا عدوانيا هو نفسه. لم يعد أغلب الناس يفهمون فعلا أن يتحلى شخص بالجدية أو يبدي اهتماما بالأمور على نحو حماسي. ربما الذين ولدوا في ثلاثينات القرن العشرين وحدهم ـ وقليل من الضالين أمثالهم ـ هم الذين يفهمون معنى أن تتكلم عن الفن في مقابل مشاريع الفن. أو الفنانين في مقابل المشاهير. كما ترى، أنا ممتلئة غضبا وسخطا على بربرية هذه الثقافة وخوائها القاسي. ويا له من ملل ذلك الذي يعيشه شخص دائم السخط.
ـ عفا الزمن على النظر إلى الأدب بوصفه وسيلة تعليم الناس ماهية الحياة.
ـ طيب، الأدب يعلمنا ما الحياة. ما كنت لأكون الشخص الذي أنا إياه، لو لم أكن أفهم ما أفهم، لولا بعض الكتب المعينة. في بالي الآن ذلك السؤال العظيم الذي طرحه أدب القرن التاسع عشر الروسي: كيف للمرء أن يعيش؟ الرواية الجديرة بالقراءة هي في جوهرها تعليم. هي التي توسّع فهمك للقدرة البشرية، لماهية الطبيعة البشرية، لما يجري في العالم. الأدب هو خالق الوجدان.
ـ هل كتابة المقال وكتابة القصة تأتيان من منطقتين مختلفتين في ذاتك؟
ـ نعم. المقال قالب محدود. القص حرية. حرية حكي القصص، وحرية التنقل أيضا. كما أن التنقل المقالي، في سياق القص، له معنى مختلف تماما. إذ أن له صوتا طول الوقت.
ـ يبدو أنك توقفت إلى حد كبير عن كتابة المقالات.
ـ فعلا. وأغلب المقالات التي استسلمت لكتابتها خلال السنوات الخمس عشرة الماضية لا تعدو تأبينات أو مدائح. المقالات التي كتبتها عن كانيتِّي، وبارت، وبنجامين تتناول عناصر في أعمالهم وحساسيتهم أشعر بالقرب منها: عقيدة الإعجاب بالقسوة وكراهيتها لدى كانيتي، نسخة بارت من الحساسية الاستطيقية، مشاريع بنجامين الميلانكولية. كنت شديدة الوعي بأن ثمة الكثير مما ينبغي قوله عنهم ولم أقله.
ـ نعم، يمكنني أن أرى في تلك المقالات بورتريهات ذاتية مقنَّعة. لكن ألم تفعلي الشيء نفسه تقريبا في المقالات الأولى، وبعضها وارد في “ضد التأويل”؟
ـ أفترض أنه لا مفر من أن يكون الكل متحدا هذه الوحدة. ومع ذلك، ثمة شيء آخر يجري في مقالات الكتاب الأخير Under the Sign of Saturn. كنت أعاني انهيارا عصبيا عديم الأعراض بطيء الإيقاع أثناء كتابتي للمقالات. كنت ممتلئة بالإحساس والأفكار والفنتازيات التي كنت لا أزال أحاول أن أحشرها في قالب المقال. بعبارة أخرى، وصلت إلى أقصى ما يمكن لقالب المقال أن يمنحنيه. ربما كانت مقالات بنجامين وبارت وكانيتي بورتريهات ذاتية، ولكنها كانت في حقيقتها قصصا كذلك. روايتي “عاشق البركان” تمثل الشكل الروائي الأتم لما كنت أحاول أن أقوله في البورتريهات المقالية لكانيتي وبنجامين.
ـ الكتابة القصصية، من واقع خبرتك، أهي اختراع حبكة أم تبيُّن حبكة؟
ـ الغريب، أن الحبكة هي ذلك الشيء الذي يبدو أنه يأتي دفعة واحدة، كأنه هبة. إنها شيء شديد الغموض. شيء ما قد أسمعه أو أراه أو أقرؤه فيستنفر بداخلي قصة كاملة بجميع تجسداتها، من مشاهد وشخصيات وآفاق وكوارث. في “علبة الموت”، سمعت شخصا ينطق اسم تدليل صديق مشترك في الطفولة اسمه ريتشارد ـ مجرد الاستماع لاسم تدليله “ديدي”. في “عاشق البركان” كنت أستعرض محتويات مطبعة بجوار المتحف البريطاني وأتيت على صور لمناظر بركانية تبين أنها من مجموعة Phlegraei Campi للسير وليم هاملتن. أما الرواية الجديدة، فقرأت شيئا من يوميات كافكا، وهو من كتبي المفضلة، فلا بد أن أكون قرأت هذه الفقرة مرات كثيرة من قبل، وهي قد تكون سردا لحلم. لكن حدث وأنا أقرؤها هذه المرة أن وثبت في رأسي قصة رواية كاملة، كما لو أنها فيلم أشاهده.
ـ القصة كلها؟
ـ نعم، كلها. الحبكة. أما ما يمكن أن تحمله القصة أو تراكمه ـ فذلك أكتشفه أثناء الكتابة. فلو أن “عاشق البركان” تبدأ من سوق البضائع المستعملة وتنتهي بمونولوج إلينورا فيما بعد الموت، فهذا لا يعني أني كنت أعرف مسبقا بكل إيحاءات تلك الرحلة التي تبدأ برسم تهكمي رخيص لـمقتن collector شهواني إلى رؤية إلينورا الأخلاقية الواسعة للقصة الكاملة التي يتوقعها القارئ. الانتهاء بـ إلينورا، وإدانتها للشخصية الرئيسية في الرواية، هي أقصى ما يمكنك نيله من وجهة النظر التي تبدأ بها الرواية.
ـ في بداية مقالتك الأسطورية “ملاحظات عن المعسكر” التي ظهرت سنة 1964، كتبت تقولين إن موقفك هو موقف “تعاطف عميق يضبطه الإحجام”. يبدو هذا موقفا نمطيا لديك: نعم ولا للمعسكر. نعم ولا للصورة الفوتوغرافية. نعم ولا للسردية …
ـ ليس الأمر أنني أحب الشيء ولا أحبه ـ هذا تصور بالغ البساطة. أو، إن شئت، ليس الأمر “نعم ولا معا”. إنما الأمر هو “هذا ولكن ذلك أيضا”. كنت أحب لو أنني أستقر على شعور أو رد فعل قوي. ولكن عقلي، بعدما أرى ما أرى، يظل يعمل فأرى شيئا آخر. الأمر أنني سرعان ما أرى حدود ما قلت أيا ما يكون، أو حدود حكمي على أي شيء. ولهنري جيمس قول بارع هو أنه “ما من شيء يمثل قولي الأخير في أي شيء”. ثمة دائما ما يمكن إضافته، وما يمكن حذفه.
ـ أعتقد أن أغلب الناس قد يتصورون أنك تُدخلين إلى القص أجندة تنظيرية ما، فإذا لم تفعلي هذا ككاتبة روايات، فكقارئة لها.
ـ ولكنني لا أفعل. بل أحتاج أن أعتني بما أقرأه، وأن يلمسني ما أقرأه. ولا يمكنني أن أبالي بكتاب لا علاقة له بالمساهمة في مشروع اسمه الحكمة. وأنا منحازة أشد الانحياز إلى وهم الأسلوب النثري. أو بعبارة أخرى أقل إرباكا، أقول إن نموذجي في النثر هو نثر الشاعر، فكثير من الكتّاب الذين يعجبونني كانوا شعراء في شبابهم أو كان يمكن أن يكونوا شعراء. وذلك كله ليس فيه شيء تنظيري. ذائقتي، في واقع الأمر، واسعة بصورة لا سبيل إلى مقاومتها.
ـ تذكرين عددا من المعاصرين الذين يعجبونك. هل تقولين أيضا إنك تأثرت بهم؟
ـ كلما أعترف بالتأثر، لا أكون على يقين من أنني أقول الحقيقة. لكن هكذا هو الأمر. أعتقد أنني تعلمت الكثير عن علامات الترقيم والسرعة من دونالد بارتليم”، وعن الصفات وإيقاعات الجملة من “إليزابث هاردويك”. لا أعرف إن كنت تعلمت شيئا من نابوكوف و”توماس بيرنهارد” ولكن كتبهم السامقة تساعدني في المحافظة على صرامة معاييري بقدر ما ينبغي لها. وجودار ـ جودار كان غذاء أساسيا لحساسيتي، ومن ثم لكتابتي بصورة حتمية. ومن المؤكد أنني تعلمت شيئا عن الكتابة من طريقة شنابل في عزف بيتهوفن، وجلين جولد في عزف باخ، ووميتسوكو أوتشيدا في عزف موتسارت.
ـ هل تقرئين ما يكتب عن كتبك؟
ـ لا. ولا حتى الكتابات التي يقال لي إنها محابية للغاية. المقالات جميعا تصيبني بالضيق. ولكن الأصدقاء يعطونني فكرة عنها، بإبهام إلى أعلى، أو إلى أسفل.
ـ لسنوات قليلة بعد “علبة الموت” لم تكتبي الكثير.
ـ كنت منهمكة كثيرا في حركة مناهضة الحرب منذ عام 1964، قبل حتى إن تسمى حركة. وكان ذلك يستهلك المزيد والمزيد من الوقت. واكتأبت. وانتظرت. وقرأت. وعشت في أوروبا. ووقعت في الحب. تطورت قدرتي على الإعجاب. عملت بعض الأفلام. مررت بأزمة ثقة تتعلق بكيفية الكتابة لأنني طالما حسبت أن تأليف كتاب ينبغي أن يكون شيئا ضروريا، وأن كل كتاب لي ينبغي أن يكون أفضل من السابق عليه. معايير عقابية، ولكنني وفية لها كثيرا.
ـ كيف انتهيت إلى كتابة “عن الفوتغرافيا”؟
ـ كنت أتناول الغداء مع بابرا إيبستين من “ذي نيويورك رفيو أوف بوكس” في مطلع 1972 ونتكلم عن معرض ديان أربوس في متحف الفن الحديث الذي كنت قد شاهدته للتو فقالت “لم لا تكتبين مقالة عن المعرض؟” ورأيت أنني قد أقدر. ولما بدأت فكرة أنني ينبغي أن أبدأ ببضع فقرات عن الفوتغرافيا عموما ثم أنتقل إلى اربوس. وسرعان ما كان بين يديّ ما هو أكثر بكثير من بضع فقرات، ولم أستطع أن أخلّص نفسي. تكاثرت المقالات ـ وغالبا ما كان ينتابني إحساس صبي الساحر المسكين ـ وباتت كتابتها تزداد صعوبة ومشقة يوما بعد يوم. لكنني عنيدة ـ كنت قد وصلت إلى المقالة الثالثة قبل أن أتمكن من تدوين بضع فقرات عن أربوس والمعرض ـ وإحساسي أنني ألزمت نفسي جعلني لا أستسلم. ومضت خمس سنوات حتى انتهيت من كتابة مقالات “عن الفوتغرافيا” الست.
ـ لكنك قلت لي إنك كتبت كتابك الثاني “الألم بوصفه استعارة” بسرعة كبيرة.
ـ يعني، هو أقصر. مقالة واحدة طويلة، هي المعادل غير القصصي للنوفيلا. وبسبب مرضي، وكنت مريضة بالسرطان أثناء كتابته وتشخيص حالتي كان مقبضا للغاية، ساعدني على التركيز. منحني الطاقة للتفكير بأنني أؤلف كتابا سيكون عونا لغيري من مرضى السرطان والمقربين منهم.
ـ وطول الوقت كنت تكتبين القصص بالتوازي مع هذا …
ـ تسخين لرواية.
ـ بدأت بسرعة في رواية أخرى بعد انتهائك من “عاشق البركان”. هل يعني هذا أنك أكثر انجذابا لأشكال القص الأطول؟
ـ نعم. هناك قليل من قصصي هي التي تعجبني كثيرا، من “أنا، إلى آخره” هناك قصص “استجواب”، و”جولة بلا مرشد”، و”هكذا نعيشها الآن” والتي كتبتها جميعا سنة 1987. لكنني أكثر ميلا إلى السرديات البوليفونية [عديدة الأصوات] التي ينبغي أن تكون طويلة، أو مائلة إلى الطول.
ـ كم احتجت من الوقت لكتابة “عاشق البركان”؟
ـ من الجملة الأولى في المسودة الأولى وحتى النهاية، سنتان ونصف السنة. وهذا بالنسبة لي سريع.
ـ أين كنت؟
ـ بدأت عاشق البركان يا سيدي في سبتمبر 1989 في برلين، حيث كنت أمضي وأقول لنفسي إنني في مكان تجتمع فيه العزلة مع كونه بيركلي أوروبا الوسطى. وعلى الرغم من أن برلين بدت شديدة الاختلاف بمجرد أن وصلت إليها، إلا أنها بقيت تحتفظ لي بمزاياها الأساسية، فلم أكن في شقتي بنيويورك، ولا كنت في المكان الذي أكتب عنه أيضا. وهذا النوع من ازدواج المسافة يفلح كثيرا في حالتي.
كتبت قرابة نصف “عاشق البركان” بين 1989 ونهاية 1990 في برلين. والنصف الثاني كتبته في شقتي في نيويورك، إلا فصلين كتبتهما في غرفة فندق في ميلانو (هروب لمدة أسبوعين)، وفصل آخر كتبته في فندق مايفلاوي في نيويورك، هو الفصل الذي يحتوي المونولوج الداخلي للفارس عند احتضاره، وكنت أتصور أنني لا بد أن أكتبه دفعة واحدة، في عزلة تامة، وكنت أعرف ـ ولا أعرف أنى لي أن عرفت ـ إنني سوف أكمله في ثلاثة أيام. فتركت شقتي ودخلت الفندق بآلتي الكاتبة وبضعة دفاتر وأقلام فلوماستر، وظللت لأعيش على السندوتشات حتى انتهيت.
ـ هل كتبت الرواية بالترتيب؟
ـ نعم. أكتب فصلا فصلا، ولا أنتقل إلى فصل إلا بعد أن يتخذ الفصل الذي أعمل عليه شكله النهائي. وكان ذلك محبطا لأنني من أول الأمر كنت أعرف كثيرا مما أريد للشخصيات أن تقوله في المونولوجات النهائية، ولكنني خفت إن كتبتها في البداية أن يصعب عليّ الرجوع إلى المنتصف. كما كنت أخشى في الوقت نفسه من احتمال أن أنسى بعض الأفكار أو تنقطع الصلة بين بعض الأفكار وبعض المشاعر حينما يحين وقت كتابة المونولوجات. الفصل الأول الذي يأتي في نحو أربع عشرة صفحة من صفحات الآلة الكاتبة استغرق مني أربعة أشهر في كتابته. الفصول الخمسة الأخيرة، وهي في نحو مائة صفحة من ورق الآلة الكاتبة، كتبت في أسبوعين.
يتبع
نشر هذا الحوار في شتاء 1995 في باريس رفيو ونشر الجزء الأول منه في شرفات الماضي بعنوان “كنت أريد جميع أنواع الحياة”
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *