المثقف.. أسيرا ومستنهضا!


*إبراهيم صموئيل


مع كل حدث عربي كبير مثل الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) والثانية (2000) أو الغزو الأميركي للعراق (2003) أو الحرب على غزة (2008) وصولا إلى الربيع العربي تحتشد وسائل الإعلام بمطالبات، مثل: “أيها المثقفون العرب، اخرجوا عن صمتكم”، أو بتساؤلات استنكارية “أين أنتم أيها المثقفون العرب؟،” أو باستعارات رمزية “أيها المثقفون، لماذا تركتم الحصان وحيدا؟”.
وقد توالت مقالات وتعليقات كهذه، شاغلها اتهام المثقفين وإدانتهم لعدم القيام بواجبهم أو لانكفائهم عن أداء دورهم إزاء قضايا الشعوب العربية حتى باتت الإدانة “فلكلورا” ثقافيا إعلاميا، مصاحبا وملازما للحروب والأزمات والأحداث الكبرى!
ومع الربيع الحالي، أزهرت الاتهامات وتبرعمت لا على أيدي مهندسين أو محامين أو أعضاء نقابات عمالية، بل على أيدي مثقفين وكتاب (يشعرون بالبراءة عبر اتهام الآخرين) وعلى أيدي إعلاميين ما انفكوا -هم أنفسهم- يبثون وينشرون مقالات الكتاب وأعمال الفنانين وبيانات الناشطين المواكبة والمشاركة في الحدث، كما يحرصون على الإعلان عن حالات اعتقال وخطف واعتداء بحق عدد من المشتغلين في الحقول الأدبية والفكرية والفنية!
المثير والمضحك في أمر “فلكلور” كهذا أنه يقوم على أساس مغلوط وبصيرة قاصرة، حين يعتبر أن المثقفين العرب جميعهم (لمجرد أنهم مثقفون) على رأي واحد ورؤية موحدة وموقف واحد إزاء هذا الحدث أو تلك الأزمة أو الحرب، والحال أن الرؤية والموقف والسلوك ليس واحدا موحدا بالضرورة، من أدونيس إلى أحدث شاعر ظهر، ومن إبراهيم الكوني إلى من أصدر روايته الأولى، ومن صادق جلال العظم إلى المشتغل للتو في الحقل الفكري!
تاريخ الثقافة يفيد -والبداهة تدعمه- بأن ثمة من المثقفين من والى سلطة الاستبداد، وثمة من عارضها. ثمة من انتصر للطغاة، وثمة من وقف في وجوههم ودفع الثمن غاليا، ثمة من شارك في الكفاح، وثمة من آوى إلى برجه العاجي (على حد التسمية العتيدة)، ثمة من نأى بنفسه، وثمة من شارك بكليته وبنتاجاته.
لا عجب في ذلك ولا غرابة: هل علماء ورجال الدين لهم موقف واحد وفتاوى واحدة إزاء مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية؟! وهل ضباط وجنود الجيش نفسه لهم الموقف ذاته والمسلك عينه؟ وهل أعضاء حزب واحد لهم رؤية واحدة وموقف واحد؟ هل النساء كلهن مع تحرر المرأة؟
ألم يناصر مثقفون النازية والفاشية، فيما عارضها مثقفون آخرون؟ فلماذا نزعة التعميم الفضفاض القائم على مغالطة في النظر، ومخالفة لمعطيات الواقع والتاريخ: “أيها المثقفون العرب” بصيغة الجمع والشمول؟!
والمثير الغريب أيضا في أمر “فلكلور” كهذا أن تتوجه نداءاته وأصابع اتهامه إلى الأضعف تأثيرا وفعالية في المجتمعات العربية -المثقفين والكتّاب- بالقياس إلى الأشد أثرا السياسيين والاقتصاديين القابضين على شرايين المجتمعات والمتحكمين بمصائر الشعوب!
ذات يوم، وضمن ملف خصص لدور المثقفين وموقفهم في إحدى الصحف العربية، أطلق محمود أمين العالم دعوة “لتشكيل برلمان أو جبهة للمثقفين العرب بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية والاجتماعية، وذلك لصوغ عقد جماعي قومي جديد يكون مرجعيتنا في المرحلة الراهنة” كما قال.
ومع التقدير لصفاء نية المفكر محمود أمين العالم وافتراض الحماسة لدى أصحاب الأقلام المتهمة للمثقف مع كل أزمة أو حرب ناشبة لا يسع المرء إلا أن يتساءل: عن أي برلمان، أو تجمع، أو عن أي دور فاعل مؤثر على رسم مصائر الشعوب يتم الحديث؟
أذكر مؤتمرا عاما عقد لأحد اتحادات الكتّاب العرب، طالب معظم أعضائه إدارة المؤتمر بتقديم بند مناقشة مشاكل الاتحاد على بند انتخاب هيئة إدارية جديدة (لأن مناقشة المشاكل الماضية مع الإدارة الجديدة لا جدوى منها بالطبع)، لكن الإدارة لم تستجب! هاجوا، وماجوا، وصرخوا، وانسحب بعضهم.. من دون جدوى. تم انتخاب أعضاء إدارة جديدة، وتنحى أعضاء الإدارة السابقة، ليجد أعضاء المؤتمر أنفسهم في عجز وعطالة وخيبة لا يحسدون عليها.
لتقديم بند على بند في جدول أعمال -كما في المثال- كافح أعضاء مؤتمر ونافحوا، ثم فشلوا! فما الحال -إذن- في المشاركة برسم خارطة وطن، أو مصير شعب، أو نزع ظلم، أو وقف حرب، أو الحيلولة دون التفريط بثروات بلد؟
أقل من ذلك بكثير: لمصادرة من وزارة عربية تقع على بضعة كتب، تقوم قيامة الكتّاب والصحافيين فتجدي جزئيا -إن أجدت- أو هي على الغالب لا تجدي أبدا! على منع تكفير مفكر اجتهد وتفريقه عن زوجته وتهجيره، تنشغل المرئيات والمسموعات والمقروءات فلا يحصد مفكرنا سوى الانتباذ في هولندا!
لجملة شاعر كمحمود درويش على عود فنان كمرسيل خليفة في أغنية للوطن، تتقاطر الوفود وتسعى للحيلولة دون سجن المغني! لنزع الطابع البدائي والطريقة المتخلفة عن آليات الرقابة العربية -وليس لإلغائها لا سمح الله- بذلت مئات المحاولات وأهدرت مئات المقترحات دون جدوى!
لتبادل المطبوعات بين الدول العربية، لرفع الضريبة على الكتاب، لتأمين حياة المبدع، لفك الحصار عن صوته، لتحصينه ضد الاعتقال، لحقه في العودة إلى وطنه.. لألف خزعة وخزعة من ألف باء احترام المثقف والثقافة، ولإفساح المجال له ولها لممارسة التعبير والتأثير والانتشار.. تنصب الجهود، وتنطلق الأصوات، وتسوّد الصفحات، فلا تنتج غير الهباء!
فعن أي تجمع ثقافي -بعد- أو برلمان، أو صوت مرفوع، أو موقع متقدم يحقق تغييرا، أو دور فاعل مؤثر للمثقفين والكتّاب والفنانين نتنادى بغية الوقوف في وجه المجازر الصهيونية أو المخططات الأميركية أو الصَغار العربي الرسمي أو دعم النهوض الشعبي.. وما إلى ذلك من كبرى الأحداث، وجسام المهمات التي عجزت عن القيام بها -وباعتراف قياداتها- أحزاب وتيارات وقوى سياسية كبرى؟!
ألا يفسح للثقافة العربية أن تحوز -قبلا- على مكانتها وموقعها في مجتمعاتنا، وتتاح للمثقفين في زمن السلم حرية التعبير، ولعب الدور، والتأثير لكي يتمكنوا في زمن الحرب والانتفاضات من الدفاع عن أوطانهم، والمساهمة في صون حقوق شعوبهم؟
ثم: كيف لمن هدرت دماؤهم وهمشوا وحوربوا وهجروا وضيعت أدوارهم في زمن “السلم” أن يقوموا ببذلها في زمن “الحرب”، أو أن يتقدموا المشهد ويؤثروا، والحال أنهم قضوا أعمارهم، وكرسوا كل نتاجاتهم للأهداف ذاتها؟!
_______________
كاتب وقاص سوري
(الجزيرة)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *