أجواء الانتفاضة في قصص مي بنات: كل شيء ساكن


*د. إبراهيم خليل

( ثقافات )

على الرغم من أن الانتفاضة الفلسطينية تراجع حضورها في الأدب بعد أن هيمنت جماعة أوسلو على الثقافة ووسائط الإعلام في رام الله وغيرها من مدن الضفة والقطاع، وعلى الرغم من انشغالات الكتاب بقضايا قد تبدو لهم أكثر حدة من الانتفاضة، فما زلنا نجد من يحرص حرصا شديدا على إشاعة أجواء الانتفاضة في قصصه القصيرة ، ومن هؤلاء القاصة مي بنات في مجموعتها ” كل شيء ساكن ” 2013 . فمن يقرأ هذه القصص يجد هذه الأجواء تهيمن عليها وعلى شخوصها وعلى ما تسرده من حوادث، وترويه من مواقف، وما ترصده من تحولات، وما تقف لديه من أماكن تسهم بفضاءاتها المفتوحة في تحديد الإطار الزمني والبيئي للحوادث.
فنحن، في أولى القصص” وتروي الرياحين ” نعايش الأم التي تحضّر كعك العيد ومن حولها الأبناء والبنات يتقافزون فرحين بالمناسبة، فهذا يقدم مساعدة، وذلك يجلب لها إبريق الماء، وسعاد تراقب من النافذة ما يجري في الخارج من تظاهُرٍ يقوم به أطفال غير مبالين بما يقوم به جنود الاحتلال من قمع لهم، ومن ملاحقاتٍ، وإطلاقٍ للأعيرة النارية، مما يجعل الحوار بين الشخوص يتخطى إلى الحديث عن الشهداء، فيما كان شادي الصغير يخرج من المنزل متجها للسوق لشراء سيارة حمراء هي لعبة العيد، وهديته، ولكن شادي، الذي لم يصغ كثيرا لأمه، سقط شهيدا بعد إصابته بطلق ناري في جبينه فتخبط في دمه وتناثرت قطع السيارة في الطريق.
وليس شادي وحده من يستشهد وهو على كثب من العيد، وفرحته، فهذا (ليث) الذي يتجنب أن يوصف بالجبان، فيتحدى- على صغره – مجنزرة الاحتلال ويكمن لها في زاوية من الطريق، وينهال عليها بالحجارة تارة، وبالمقلاع تارة، فيصيبها مرة ويخطئها مرة. وهو يكرر لنفسه أنه ليس جبانا مثلما يظن بعض الناس. وهكذا يمتلئ بالفخار والزهو وحجارته تسقط على رأس الجندي الذي يقود المُجنزرة. ولكن إلى متى تستطيع الكف أن تلاطم المخرز؟ فحين يحاول الهرب مسرعًا منها لا تمهله القذيفة المنطلقة ريثما يأوي إلى المنزل فقد افترش جسده الحصى، لتدوسه المجنزرة مرة ومرة حتى يستوي بالتراب. ومثل هذا يُذكِّرُ القارئ بيوسف الذي غادرت أسرته البيت بحثا عن ملاذ آمن، بعيد عن متناول الاحتلال وقذائفه، ولكنه لا يطمئن بالا، ولا يقر عينا، إلا بالذهاب ثانية إلى البيت ليجلب القفص والطيور التي احتفظ بها فيه. غير أنه وبعد مغامرة شديدة الخطر يكتشف موت العصافير، وأن جيفها أصبحت متيبسة بالدم الذي يغطي ريشها منذ أصيبت ولم تعد ترضي حتى القطط، التي تحاول عبثا أن تنهش منها ما تنهش. وفجأة يتلفت يوسف لشجرة البرتقال فيكتشف أن الشجرة ما تزال تحتفظ ببرتقالة واحدة. فيقرر قطفها فورا والعودة بها للمنزل. ويتسلق الشجرة مُحاذرا أن يصاب بطلق ناري، وما هي إلا لحظات حتى دوى الرصاص فتناثرت البرتقالة وتناثرت أوراق الشجرة، وأصبح يوسف مكشوفًا، مما وضع حدا لعناده، فسقط شهيدا بين خليط من الدم والبرتقال وريش العصافير والزعتر والدموع، فيما كانت ترتفع على الأسوار عبارة كتبت بالروح بالدم نفديك يا فلسطين.
والشيء نفسه يتكرر، ففادي طفل فلسطيني اعتقل أبوه، وأخذه جنود الاحتلال لأحد السجون، وهو لذلك يعاني من الخوف الذي يؤرقه فلا يستطيع النوم. ومن الجوع الذي يضاعف سهاده فتهدهده أمه بأغنية قديمة للأطفال( يالله تنام يالله تنام.. وذبح لك طير الحمام..) وعلى الرغم من أن الأم تحاول أن تهدئ مخاوف الصغار، وألا تتحدث لهم عن السجن الذي يقبع فيه الأب، وألا تجعل أطفالها يخشون الموت، إلا أنها تسقط ضحية قذيفة كبيرة من القذائف التي لم تترك أحدًا من أفراد الأسرة، فقد باتوا جميعا تحت التراب.
ومما سبق، يلاحظ القارئ أن شخصيات ميّ بنات في القصص تنتمي بصفة عامَّة للطفولة، أو للأمهات. فالشهداءُ، والصرعى، في القصص من الأطفال، والأمهات يساعدن الأطفال قبل التضحية بهم . ففي قصة (جميلة) فتاتان صغيرتان تحاولات التسابق على سطح البيت. فتقول منال لجميلة: أي سباق، والقذائف لا تعرف أحدا؟ فتقول لها منال: إذن ننتظر القذائف في البيوت. بمعنى أنّ السباق والاحتماء بالبيت سيان، فالقذائف لن تترك لهما إلا القليل من الزمن. وبالفعل ما إن يبدأ العد: واحد.. اثنان… ثلاثة .. حتى تنهال القذائف على المنزل وتودي بهما للعالم الآخر. كل منهما تحلق لكن بلا عودة. وهكذا لا تسلم البيوت وسقوفها من آثار التدمير المُمَنْهج، الذي قامت، وتقوم به، السلطة المكلفة بالاحتلال، وثمة نموذج آخر نجده في قصة ” حي الشجرة ” فالشاب الذي يحتفل بزفافه ما إن ينتهي من حمام العريس وفقا للعادات، والمأثورات الشعبية، حتى يكتشف أنّ البيت الذي كان قد أعده عشا للأسرة الجديدة، ومخدعا لعروسين جميلين، قد تحول إلى كابوس بسبب القذائف التي انهالت عليه فتركته ركامًا مبعثرًا سرعان ما جاءت جرافات الاحتلال، وطمست معالمه وبقاياه. 
وإذًا فإن جل القصص تنتهي نهاية مأساوية، نهاية يسقط فيها البطل إما شهيدًا، أو مشروع شهيد، أو استشهاديًا يلقي بنفسه ” أمام الدبابة الحقيرة التي تسجننا، فأموت، وتنجون أنتم ” فالذي لا يفعل ما تنوي فعله أم صابر سيلقى حتفه دون أن يدري ولو كان في برْج مشيّد، ودون أن يدافع عن نفسه، أو عن صغاره. وهذا هو حال (أبو صابر) الذي اعتصم بالبيت، وبشجرة الزيتون المباركة. فقتلتْ زوجته بين يديه دون أن يستطيع أن يفعل ما يدفع عنها أظفار الموت. وعندما عاد بها للبيت، وجد الدبابات قد سبقته ” ودمرت البيت وفجرته، وفجرت كل ما فيه ” .
ومثل أم صابر سناء الفتاة الجامعيةُ التي تأبى إلا أن تدرس الصحافة خلافا لشقيقها سامي الذي درس الحقوق ليدافع بعلمه عن الناس في المحاكمات فلم يستطع أن يدافع عن حقة في الحياة. أما سناء فتعتزم ان تصبح صحفية لتكتب المقالات مدافعة عن حريتها وحرية الشعب، فتفقد يدها التي تكتب بها، بعد أن تحاول اجتياز الجدار من إحدى ثغراته، فيعاجلها رصاص الصهاينة ولا تصحو من غيبوبتها إلا بعد ساعات في المشفى، لتعيش بلا يد تستطيع أن تكتب بها شيئا ” لن أقوى بعد اليوم على الكتابة بيدي لكن سأخط اسمي بروحي على الجدار إنْ فقدت يدي. ” 
ولعل مما يلفت النظر في قصص ميّ تلك العلاقات الأسرية الحميمة التي تلح عليها في كل قصة. فإما الجدة وإما الأم وإما الابن أو الابنة وصديقة البنت وأصدقاء الابن، حاضرون، أو حاضر ، في هذه القصة أو تلك. ففي (كن رجلا) ثمة خيط فني دقيق يصل الحفيد بالجدة. فهو لا يبالي بوقوعه أسيرا إذا كان في الأسر مصداقا لما تكرره الجدة ” الأسر للرجال ياعلي. ” و ” اصمد تكن رجلا ” وعلى هذا النحو تتصاعد أصوات الأم وهتافات الإخوة، وأنين مريم، وهو يواصل الانتظار عشرين عامًا داخل السجن. وفي قصة (الحكاية) نجد الصغيرة في البداية تنادي ” جدتي .. جدتي.. ” حين تراءى لها أن الجدة تحتضر، وأن العصفور الجريح ينظر وراءَه بذعر. وفي قصة أخرى بعنوان (يوم حصد الزيتون) نجد أم نضال تتذكر جدتها التي قدمت لها يوم زفافها مجموعة من الأساور، وأوصتها ألا تبيعها مهما جارت عليها الأيام، وضاقت بها ذات اليد. ” هذا الذهب كله لك يا عايشة. قد تحتاجينه يوما إنْ جار عليك الزمن. أما هذه الأساور فلا تبيعيها، إنها أساور جدتك، فيها رائحتها وأحبّ أن يبقى شيئٌ مني في يدك بعدما أموت “.
فمثل هذه الحميمية في علاقات الشخوص تضفي على قصص ميّ بنات نوعًا من التجانس.
والتجانس في قصص مي يتجلى في ناحية أخرى من نواحي النص القصصي. ومن ذلك اللغة الأنيقة التي تقتربب بالقصة من لغة القصيدة. فهي لا تفتأ تستعمل هذا المستوى من اللسان حتى في الحوار. وهو حوار يجيء في الغالب والأعمّ والأرْجح بين شخصيات من عامة الناس. فقد يتقبل القارئ ما يصدر عن رفيق، وعن صاحبه، من حوار رفيع، كونهما مثقفين، يُرقّصُ أحدهما قلمه على الأوراق، ويخط فيها شعرًا. ولكن الذي يتوقف لديه القارئ هو أن يتحدث الأشخاص في الحوار بلغة ومفردات وتراكيب تبدو مفتعلة إلى حد كبير، فأم صابر في قصة (حي الشجرة المباركة) تقول لابنتها كلامًا لا يتوقع صدوره من امرأة كهذه ” أأنت جادة؟ هاتها إذًا. والله إنك ابنة فطنةٌ، لم أعرف أنك ستفعلين شيئا كهذا ” ص48 
والشيءُ نفسه يتكرر في قصة سأكتب اسمي، فالأم تخاطب ابنتها الجامعية سناء بأسلوب يصعُب توقعه من سيدة كهذه، تتمتع بمستوى تقافيّ وتعليميّ بسيط، تقول ” لو أنك ترحمين نفسك من هذا العذاب اليومي، يا ابنتي! وتتركين الجامعة، وتلتحقين بالمعهد الحرفي كابنة خالتك. ها هي تجني الذهب من عملها هذا “. ص56 وتلتزم مي بنات عمومًا بهذا المستوى الرفيع من اللسان في الحوار، وفي غيره، مما يضفي على القصص طابع التجانس، وينأى بها عن لغة الحياة اليومية التي هي في نظر الدارسين من عربٍ، وغربيين، أكثر حيوية، وأصدق تصويرًا، وأكثر تعبيرًا، عن أحوال الشخوص، وما يدور في أذهانهم، من هواجس.
صفوة القول أن المجموعة الموسومة بعنوان ” كلّ شيء ساكن ” تتضمّن في ثنايا القصص شهادة ولادة لكاتبةٍ قاصة يأمل القراء أنْ تقدم الكثير الجيد في مُستقبَل الأيّام الآتية.
_________
• ناقد وأكاديمي من الأردن

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *