وجدي الأهدل *
تنجح القاصة الإماراتية (مريم الساعدي) في الانفصال عن ذاتها، والنظر إليها من زوايا عديدة مختلفة. إنها تسحب روحها وتُحكم عليها قبضتها، وتضعها تحت مجهر الكتابة الذي يقوم بتكبير التفاصيل الصغيرة. وهذا الإنجاز الإبداعي نجده مُتجلياً في كتابها القصصي «مريم والحظ السعيد» (هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، المجمع الثقافي، أبوظبي، 2009) الذي يحتوي على خمس وعشرين قصة قصيرة. والمقصود هنا ليست «الذات» الفردية للكاتبة، وإنما «الذات» التي تشكل قاسماً مشتركاً بين جميع النساء في المجتمع الإماراتي، وربما الخليجي بصورة أوسع. ووفقاً لهذه المقاييس الضخمة للذات، فإنه قد تحقق للقاصة مريم الساعدي – بفضل الكتابة التي هي معجزة وحظ سعيد حتماً- التخلص من عقلية الجموع الراضية المستسلمة لواقعها، إلى فكر جديد، يُبدي المقاومة، ويتجرأ على طرح الملاحظة، وهذه بالتأكيد هي أسمى مهام المبدعة والمبدع.
ولعل قصة «معلمات» الأكثر دلالة على وعي الكاتبة برسالتها، فهذه القصة تتحدث عن اجتماع ست عشرة امرأة، كلهن كن زميلات دراسة أيام الصبا، وكل واحدة منهن كانت لديها رغبة محددة وواضحة بشأن عملها ومهنتها في المستقبل: واحدة كانت رغبتها أن تكون مضيفة طيران لترى العالم، وثانية كان طموحها أن تكون مهندسة لتغير نمط العمران في بلادها، وثالثة كان طموحها أن تُدير شركة وتجمع ثروة بهدف إنفاقها على تعليم البنات الفقيرات في العالم، ورابعة كان طموحها أن تصير رسامة في أفلام الكرتون، وخامسة كانت تريد أن تصير محامية. ولكن هذا الطموح لم يتحقق، ولا واحدة منهن نجحت في تحقيق طموحها، وكلهن صرن معلمات، لأن المجتمع المحافظ لا يسمح للمرأة بالعمل إلا في هذه المهنة فقط، وبالتالي حرمانهن من العمل في أية وظائف أخرى. تقول إحداهن: «هي لغيرنا من الفتيات.. تعرفين عادات القبائل وبنات العائلات، لا تختلط البنات بغير البنات، ولا وظيفة مسموحة غير مهنة التعليم»(ص112).
تلتقط القاصة مريم الساعدي هذا الخلل الاجتماعي وتشير إليه دون مواربة، وهي تصف تلك النساء بأنهن «ميتات». كما أنها تشعر بالغضب لما حدث لهن، تراه نوعاً من انتزاع الحياة: «كن فتيات واعدات.. مشاريع نسوة رائعات رائدات سعيدات. في أية مرحلة حدث التقهقر؟ ولمصلحة من صرن مجرد نسوة أخريات؟ نسوة مكررات، مترهلات، ثرثارات، محبطات، ومستهترات: برسالة الإنسان، بالورد، بالنسمات، وبروعة خيوط الفجر الأولى»(ص118).
في قصة «صديقاتي العزيزات التعيسات جداً» تشتغل القاصة على نفس الثيمة، ولكن من زاوية نظر مختلفة، فهي تنتقد عجز النساء في مجتمعها عن المشاركة في الشأن العام، وانزوائهن خلف الجدران، وهي تُحمّلهن التسبب في جلب التعاسة إلى أنفسهن.. لأن الإنسان الذي لا يشغله شيء ينتهي إلى التعاسة. وكلما قلت رغبات الإنسان وتقلصت مساحة اهتماماته في الحياة، كلما داهمته أعراض السأم والاكتئاب وغيرها من المشاعر السلبية، بل وحتى الأمراض الجسدية. تُعطي القاصة تحليلاً صائباً لأسباب غياب السعادة في مجتمع يُفترض أن يكون سعيداً. وأفكارها في هذه القصة تقترب كثيراً من أفكار الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي قال: «إننا يجب أن نحث كل شخص لديه القدرة على أن يعيش وفقاً لاختياره أن ينشئ موضوعاً لنفسه.. يهدف إليه – قد يكون هو الشرف أو الشهرة أو الثروة أو الثقافة- سوف يقوم بكل أفعاله استناداً إليه. لأنه حينما لا تكون حياة المرء منظمة وفقاً لهدف ما، فإن ذلك هو الحماقة» (السعادة موجز تاريخي، نيكولاس وايت، ترجمة سعيد توفيق، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أكتوبر 2013، ص26).
تركز قصة «الحب والبترول في لوحة جدارية» على مشكلة اجتماعية عويصة، هي الزواج من الأجانب.. والقصة يتنازعها صوتان، الأول مؤيد لنداء الحب، والثاني يُحذر من طالبي الزواج لغرض الحصول على عقد عمل أو أية منافع مادية أخرى. ونجد في قصة «موظفة مجدداً» إشارة هامة جداً إلى القيود الاجتماعية المفروضة على الكاتبة العربية، وتحديداً في الخليج العربي الأكثر محافظة، حيث مساحة الحرية الممنوحة لها محدودة جداً. ونلمس في القصة أن القيد أحياناً هو قيد على الروح، وأن القلم في اليد ليس مطواعاً على هوى صاحبته أو صاحبه، وقد يصير كاتماً للصوت! وهذه القصة أعدها من أجمل قصص المجموعة، لأن القاصة توصلت إلى تقديم رؤيتها الخاصة ببراعة، وفي نسيج قصصي سلس ومترابط، ويعطي فكرة عن سر تأخر الإبداع في منطقتنا العربية.. لقد وضعت القاصة يدها على موضوع شائك، هو العلاقة بين الإبداع والبيئة التي ينشأ فيها، وهي عالجت هذا الموضوع بإيجاز وحرفية وقوة بصيرة: «كيف يمكن لكاتب أن يتحدث عن الانطلاقات الأخرى على الورق وهو لا يمتلك حرية انطلاقاته الخاصة الواقعية»(ص147-148).
إحدى القصص اللافتة في المجموعة هي قصة «إدراك» التي تحوي تحليلاً عجيباً لشخص فاشل في الحياة، وفيها تتجلى قدرة الكاتبة على النفاذ إلى أعماق النفس البشرية.. وتبدو هذه القصة خارج سياق القضايا النسوية – إذا جاز التعبير- التي تشتغل عليها القاصة، ولكنها وحدها تعادل عشرات القصص، لمضمونها الإنساني الرفيع القيمة، وأيضاً لبنائها السردي الذي يكاد يبلغ حد الكمال، وحبكتها المتقنة. وبهذه القصة تضع القاصة مريم الساعدي قدمها في أرض الموهوبين الكبار في كتابة القصة القصيرة، وكذلك القصص الأربع والعشرين الأخرى التي تُفصح أن قلمها سيضيف للأدب الإنساني أعمالاً راقية وجادة، تتناقلها الأجيال.
– الوطن